تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الكاتبة الروسية غالينا شيرباكوفا... ذكريات وتداعيات

كتب
الأربعاء 23-10-2013
غصون سليمان

صاغ تشيخوف هدفه الإبداعي وفق هذا المعيار «أهدف إلى اصطياد عصفورين: أن أصور الحياة بأمانة وصدق، وأن أبرز بهذا السياق مقدار انحرافها عن الصواب».

والكاتبة غالينا شيرباكوفا تسير على نهج تشيخوف وهي تدرك بشكل عميق واقعها، ولهذا تغدو حقيقة اللوحات التي ترسمها حادة، فتعري أخطاء منظومة العلاقات الاجتماعية السائدة ولامعقوليتها، وتتطلع إلى حياة أخرى، محاولة رسمها كما يجب أن تكون.‏

بهذا المشهد نشير إلى ما ترجمه الدكتور هزوان الوز لجزء في مقدمة كتاب حمل عنوان «اثنان وواحدة» الذي يضم مجموعة قصصية للكاتبة الروسية غالينا شيرباكوفا والصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب للعام 2013.‏

مجموعة من التساؤلات كانت دافعاً عند المترجم ليغوص في عوالم غالينا شيرباكوفا إذ كلنا يعلم أن القصة السوفييتية أعطت العالم الأدبي الشيء الكثير، وقدمت أسماء كتاب عمالقة أمثال نيكولاي غوغول وفيودور دوستويفسكي، وليف تولستوي، وأنطون تشيخوف، ومكسيم غوركي، وميخائيل شولوفوف، وفانتين راسبوتين وغيرهم.‏

لذلك راود الدكتور هزوان الوز سؤال أراد أن يجيب عن القارئ العربي بالقول: أين هنَ الكاتبات السوفييتيات؟ إذ إن القارئ العربي نادراً ما اطلع على كاتبات هذا البلد سوى ترجمات متفرقة لقصص قصيرة لبعضهن، وأمام هذا السؤال ولاعتبارات أخرى تتعلق بالكاتبة وأدبها أخذ المترجم د. الوز ترجمة بعض نتاج الكاتبة شيرباكوفا، حيث اختار قصتين ورواية قصيرة بعنوان (الجدار) من كتابها الثاني الصار في موسكو عام 1997 والذي يحمل عنوان (عام الكرمنتينا) وقد ضم هذا الكتاب ثلاث روايات وست قصص، وتركز غالينا شيرباكوفا في رواياتها وقصصها على ما هو حياتي، أبدي، على المشاعر الإنسانية الحقة، متنقلة من نثرية الحياة اليومية إلى رؤى فلسفية، وتتحدث عن كل ذلك بصوت خافت بسيط، وهو مبعث انطلاقة نتاجها وصداع الواسع في نفوس الكثير من القراء.‏

فالكاتبة غالينا شيرباكوفا تصور لحظات ومواقف حياتية في لوحات فنية ناطقة لعلها لا تستكمل صياغتها القصصية بالمعنى الشائع للقصة محبوكة الأطراف ولكنها مرزق من الحياة ومع ما يبدو من بساطة ظاهرية في هذه اللوحات، فإنها تنطوي على معان عميقة، وتحليل للنفس البشرية بشكل دقيق.‏

الخواتم.. والبرغل‏

تذكر شيرباكوفا المولودة في 10 أيار 1932 في مدينة دزيرجيسك التابعة لمنطقة دونيتسك في جمهورية أوكرانيا إحدى جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً كيف أن جدتها وزعت خواتم الخطوبة والكثير من النقود لشراء البرغل يوم عصف طاعون الجوع في تلك السنوات، وحصد الكثير من الأرواح في أوكرانيا (فيما الصغيرة شيرباكوفا لم تمت حينها ومنذ ذلك الوقت فإن الخواتم والبرغل هي مفاهيم مقدسة في حياة هذه الكاتبة كما تقول.‏

كتبت الكاتبة شيرباكوفا في الفترة الممتدة إلى نهاية السبعينيات ما وصفته بالأغراض الجدية، وكتابات وقصائد نثرية ومواضيع في الفلسفة، لكن لم تلق من يريد نشر هذه الكتابات، فقررت يوماً كتابة قصة عن الحب وهكذا ولدت عنها قصة القصة والسروة التي نشرت في خريف عام 1979 في مجلة الشباب، والتي أخرجت فيما بعد فيلماً سينمائياً تحت اسم «وما تحقق حلمه».‏

وعلى غير ما كانت تتوقعه الكاتبة حصلت القصة والفيلم على نجاح صاعق وتروي الكاتبة مغزى هذه القصة بالقول إنها كتبتها على خلفية سقوط ابنها اليافع إثر تسلقه أنبوبة لتصريف الماء للبناية قاصداً الوصول إلى حبه الأول. وفي عام 1981 حصل الفيلم وما تحقق حلمه بناء على استفتاء قراء مجلة الشاشة السوفييتية على اسم أفضل فيلم للعام المذكور.‏

اثنان وواحدة‏

قصة اجتماعية حياتية تكاد تشبه تجربة كل واحد فينا.. فهي عكست من خلال أشخاصها وأبطالها أحوال العمل والعاطفة والزواج عبر اعترافات وبوح هؤلاء من نساء ورجال وأحباب في زمن بعيد كان لكل شيء طعم ولون فكان لمحطة القطار ذكرياتها وللغابة أحاديثها وللمنازل والبيوت ضجيجها وللعلاقات الاجتماعية أدبياتها بدءاً من الخدمات العامة في أصغر حي إلى مساحة المجتمع الكبيرة.‏

وفي تداعيات لقاء عنوان القصة الثانية ضمن هذا الكتاب نختار هذا المقطع منه كما ترويه هذه الأديبة: لكل إنسان طريقته الخاصة للخروج مما هو فيه من الأوقات الصعبة، أما فيرا إيفانوفنا فحاولت مواجهة الأمر بدوران شريط الذاكرة بسرعة وتوقفه عند كل الأشياء والأحداث والعلاقات الجيدة، والنجاحات التي سبق أن حققتها في حياتها. وكانت هذه طريقتها لمواجهة المنغصات والإزعاجات، حيث استحضرت في ذاكرتها كمية كبيرة من النجاحات لتؤكد أن حياة فيرا إيفانوفنا صحيحة ومستقيمة ورائعة.‏

والجدار الذي حمل عنوان رواية قصيرة في هذا الكتاب حيث يعكس مضمون القصة حالة الرتابة التي يعيشها الزوجان تحت سقف واحد، هذا في الجو العام للأسرة لكن في الحقيقة فإن لكلا الزوجين عالمهما الخاص من ذكريات وتداعيات، أحلام، أفكار، طقوس، عادات وأشياء أخرى كأن تنزعج الزوجة من الجدار الداخلي في المنزل وخاصة ليلاً عندما تنعكس عليه الأضواء فيصبح لونه أصفر ما يسبب لها الأرق والتعب فيما الزوج لم يكن يلاحظ الموضوع أو يأبه لهكذا تفاصيل صغيرة، حتى أصابه الأرق وعندها انتبه إلى الجدار وأحس بما سببه من وهن وتعب لزوجته، عندها اقتنع أنها كانت على صواب.‏

والجدار هنا بالتأكيد يمثل حالة رمزية لكثير من العقبات أو خيبات الآمال التي تصيب الإنسان سواء كان عازباً أم متزوجاً فكل شخصية اصطدمت بجدار أو عائق حول مجرى حياتها من اتجاه إلى آخر.‏

نجمة حقيقية‏

كانت الكاتبة غلينا شيرباكوفا نجمة حقيقية في النثر السوفييتي، وقد كتبت أكثر من 75 مؤلفاً ما بين رواية وقصة، وقصة قصيرة ومسرحية وحوارية (سيناريو)، التقت كثيراً مع قرائها وسافرت مرات عديدة في البلاد، طبعت مؤلفاتها بأعداد هائلة من النسخ ونالت أوسمة ومكافآت وكل ذلك لم يغير في تواضعها أو يخلق لديها شيئاً من الغرور أو الأنانية أو السعي لمجد خاص.. وقد قالت شيرباكوفا: «الكتابة بالنسبة لي هي قبل كل شيء عمل شاق.. جهد، وأنا حتى الآن أكتب كتبي عادة بقلم ناشف عادي ولم أحاول حتى استيعاب الحاسوب، فأنا لا أثق كثيراً بالآلات، فالنثر المكتوب بالحاسوب يبدو لي نثراً ميكانيكياً».‏

غلينا شيرباكوفا تقود القارئ إلى الاستنتجات بشكل غير ملحوظ، بانية قصتها بشكل ينبثق فيه الحكم النهائي كأمر لا جدل فيه، اقتضته طبيعة الحال، ولا يتكون عبر افتراضات ومحاكمات معقدة بل يوحي به أو يفرضه المنطق الطبيعي السليم ومجمل الأحاسيس والمشاعر التي يثيرها السرد القصصي.‏

عانت هذه الكاتبة من المرض الشاق كثيراً ولكنها كانت تستجمع قواها دائماً وصمدت حتى النهاية، وظلت تكتب حتى أيامها الأخيرة وتركت قصة مكتوبة لم تنجز. غادرت الحياة في يوم الثلاثاء 23 آذار عام 2010 عن عمر ناهز الـ 79 عاماً.‏

اثنان وواحدة هو الكتاب الشهري الثامن والخمسون الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب (دار البعث) للعام 2013 ويضم 160 صفحة من القطع المتوسط. - ترجمة الدكتور هزوان الوز‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية