وتعتبر استجابة المثقفين و المسرحيين في العالم الثالث للمسرح في شكله الغربي و محاولاتهم إدراج هذا الشكل المسرحي في سياق خصوصيتهم الثقافية قاعدة لخطاب نظري يخص الظاهرة المسرحية في القرن العشرين. وتنطوي محاولات هؤلاء المسرحيين و المثقفين لتأسيس هكذا خطاب على صراع مع الشكل المسرحي الغربي الكلاسيكي. و يعود ذلك إلى أن عملية إخضاع الشكل المسرحي الغربي لسياق ثقافي محلي تتضمن حرية كبيرة في توظيف أنماط التعبير الثقافي وأشكال الفرجة التي لا ينطبق عليها التعريف الغربي للمسرح. إلا أن عملية الصراع هذه مع النموذج الكلاسيكي لا تنحصر فقط في إطار المثاقفة خارج الحدود الجغرافية والسياسية لمراكز الحضارة الأوربية التي رسخت مؤسسة الشكل المسرحي. ذلك أن الحداثة المسرحية الأوربية ذاتها انطوت على عملية معقدة من المثاقفة كانت في جذورها تنزع نحو استعادة جوهر المسرح وديناميكية الظاهرة المسرحية من سيطرة تراث عريق من الأدبيات والأعراف التي رأى فيها حداثيو بداية القرن الماضي سجناً أفقد المسرح جوهره، لذلك لا بد من تحطيم هذا السجن والبحث خارجه عن آفاق ودماء جديدة.
وكانت عملية المثاقفة تلك التي حركت المسرحيين الأوربيين للبحث عن دماء جديدة تعيد الحياة إلى الجسد المتكلس لا تخلو في عمقها من رواسب نزعة استشراقية، كما أشار العديد من النقاد والدارسين للحركات والتجارب المسرحية في النصف الأول من القرن الماضي. فكل التجارب المسرحية من مايرخولد مروراً بغروتوفسكي وآرتو وغيرهم وصولاً إلى برتولد بريخت وبيتر بروك قد اتجهت إلى ثقافات الشرق لاستكشاف مواد وأدوات تعبيرية يمكن لها أن تزود المسرح الأوربي بدماء جديدة. وكانت استعادة الجسد والدهشة والاحتفالية والبدائية والشرطية إلى حدث العرض المسرحي كلها نوازع حركت كبار المسرحيين مخرجين وكتاباً باتجاه تدمير النموذج والمفهوم الكلاسيكي للعرض. وتعود النزعة الاستشراقية، حسب النقاد المسرحيين الذين درسوا تلك التجارب من وجهة نظر “ما بعد كولونيالية”، إلى أن المسرحيين الأوربيين قد استثمروا الظواهر المسرحية الشرقية واللا أوربية بدافع تقني-نفعي بحت، حيث أنهم وظفوا تعبيرات وتقنيات وجماليات من ثقافات مغايرة عبر اقتطاعها من سياقها وإعادة توظيفها وصياغتها في أنساق تعبيرية مختلفة دون الحفاظ على دلالاتها وخصوصياتها الثقافية الأصلية.
قد يصح الاختلاف مع هذه الرؤية إلى درجة أو أخرى باختلاف موقع النظر إلى التراث المسرحي الأوربي الحديث، ولكنه من المؤكد أن حالة المثاقفة تلك قد رفدت المسرح الأوربي فعلاً بدماء جديدة أعادت الحياة ليس فقط إلى المسرح، بل إلى الثقافة عموماً. ومع تطور حقل الدراسات المسرحية واستفادته من تطور الحقول المعرفية الأخرى خرج التراث المسرحي العالمي في العقدين الأخيرين من القرن الماضي من سيطرة الاتجاهات النقدية والنظرية الكلاسيكية التي قرأت تاريخ المسرح من وجهة نظر أحادية يسيطر عليها المفهوم الأوربي للمسرح. وبالإضافة إلى ذلك أدت التطورات الفكرية والمعرفية إلى نشوء أدوات جديدة لقراءة الظاهرة المسرحية كتعبير ثقافي يتسم بالتعددية ومستقل عن أحادية النموذج. وفي هذا السياق قرأت الدراسات المسرحية الجديدة لحظة مثاقفة حداثية ثانية باتجاهات معاكسة ومغايرة لتلك التي حدثت في مطلع القرن الماضي. كانت تجربة المثاقفة المسرحية الجديدة في النصف الثاني من القرن العشرين بعد انهيار الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة وإنجاز الاستقلال الوطني ونهوض مشاريع الثقافة القومية في معظم المستعمرات السابقة. ومنذ عقد الستينات حصل ما يشبه النهضة المسرحية في معظم الدول المستقلة. لقد تحول المسرح هنا إلى مشروع ثقافي تحرري ينزع لإعادة صياغة الهوية القومية الثقافية للأمم.
في سياق تلك النهضة التي لم تدم طويلاً، استطاع العديد من المسرحيين في أنحاء مختلفة من العالم أن يطوروا هاجساً تجريبياً سعى إلى خلق شكل مسرحي مختلف عن كل من طرفي المعادلة الثقافية خلال التجربة الاستعمارية، أي أنه مختلف عن تراث الذات وعن تراث الآخر في آن معاً. إلا أن خصوبة هذه التجربة نبعت من أن تجارب هؤلاء المسرحيين فككت عناصر طرفي المعادلة وإعادت صياغتها في نموذج جديد يختلف عن مصادره ومكوناته الأصلية. وهكذا نشأ مسرح تحدى النموذج الأوربي وتجاوز منظوماته، لكنه وفي نفس الوقت لم يرفضه بالمطلق وسعى إلى مغايرة الماضي الثقافي للذات لا برفضه كلياً، بل بإعادة توظيف بعض عناصره في تجارب جديدة وفي أنساق جمالية وتعبيرية مختلفة. هذه التجارب كلها هي التي خلقت ما أصبح يعرف اليوم بالثقافة المسرحية الحديثة التي استقلت عن المراكز الأوربية التقليدية للثقافة المسرحية التقليدية. ولعل من أهم ملامح هذه الثقافة وأكبر إنجازاتها هو أنها استطاعت أن تحدث تأثيراً كبيراً في الثقافة المسرحية في أوربا القديمة ذاتها. وهكذا استطاع مسرحيون أفارقة وهنود وآسيويون وآخرون من ثقافات مختلفة أن يصبحوا شركاء في صناعة المشهد المسرحي العالمي في لندن ونيويورك وباريس.. ولم يعد بالإمكان الحديث عن ثقافة مسرحية نقية بالمعنى الثقافي في أي مكان في العالم، بل أصبح المسرح فضاء ثقافياً مفتوحاً في كل الاتجاهات.
إن تاريخ المسرح الحديث في هذا السياق هو بالفعل حالة من المثاقفة التي تطورت بشكل جعل المسرح ثقافة كونية. ولعل من مظاهر هذه الكونية هو ما ترصده الدراسات المسرحية المعاصرة من أن حتى مشاكل وأزمات المسرح أصبحت ظواهر عابرة للثقافات.