ولرفسته ولحطمت رأسه إن لم يفق، ماذا يعني خسارته، كلنا نخسر، نقوداً، أملاكاً، أحباباً، أهو الوحيد؟ إذا لا بد من صفعه، وسحقه إن تطلّب الأمر. مثلما فعلتُ مع هيفاء. حين علمتُ أنها تخونني،صحيح هي ليست زوجتي ولا حتى خطيبتي، إلا أنها تُحسَبُ لي، وعليها مراعاة مشاعري، حين قال «علي» أنني أناني قلت له: أليست هي أنانية لما خانتني؟ وحين اعترض على الخيانة وأنها لم تفعل ما يستحق الخيانة كدت أخسر «علي» صديقي الوحيد الذي أثق به، وكُدت أُفرِّح «نهاد». ذاك الزميل الذي تشاجرتُ معه بسبب «هيفاء» لم أكن أتوقع أن ينفرد معها، كنت أحكي له كل أسراري معها، والحق لم أدرِ سبب تصرفي بدافع الغيرة، أم الخوف من اكتشاف الكذب ؟.كنت أكذب عليه وأنا أتحدث مغامرتي الوهمية مع «هيفاء» ولكني كم كنت غبيا، حين علمت أنه لن يصدق أحد ما فعلته أو لم افعله، لأن الإنكار والتكذيب من الخصائص الجديدة التي تعلمتها لما انفتح لي هذا العالم.
أنا المعلق، ابن القرية الذي استوطن والده في المدينة، وعمل في النسيج، تاركاً الزراعة، ومهنتها الشاقة. أسمّي نفسي معلقا لأننا لم نترك تقاليد القرية، ولم نتقن تقاليد المدينة. فحين نشتري غرضا نشتريه بأغلى الأثمان ونبيعه بأبخس الأثمان، عكس جارنا ابن المدينة، نراه يشتري البيوت لأولاده والدكانين ومهنته مثل مهنة والدي..
لغز لم افهمه، ولم يشرحه لي والدي إلا بكلمة القسمة، واليانصيب، والمقدر، والقناعة.
الشيء الوحيد، الذي تفوّق عليه والدي نجاحه في تدريسي، أولاد جارنا كلهم فشلوا في الدراسة،أصبحوا أصحاب مهن، تزوجوا وتفرقوا، وبقيت أنا مع والدي، أتكل عليه، ويفتخر بي ويحق له فأنا الوحيد من أفراد عائلتي الدارس في الجامعة والموظف في المدنية، وكدت أشعر بانتصاري على أولاد المدنية حين دخلت الجامعة ولأكتشف أنهم أكثر عددا، وأنهم أحسن اختيارا للفروع المدرّة للمال والمستقبل..
قلت لعلي مرّةً أن سبب دراستي والدي، حين عاد من خدمة العلم، أصرّ على مغادرة القرية وتعليمي في المدنية حتى حين أذهب للجيش لا يستطيع المساعد أن يأمرني أو يتحكّم بي كيفما يشاء..هكذا قال مرة لعمي الذي طلب منه تعلمي صنعةً،أعينُ أسرته المؤلفة من خمس بنات وصبي، رفض أبي وحتى أنه صفع أمي حين عاد عمي إلى القرية لما قالت بأنه يغار من ابننا. كان يحترم عمي كثيرا ولأنه أكبر منه لم يناقشه حتى عن حصتنا في الأراضي الموروثة.
«علي» ابن قرية مثلي، إلا أنه جبليّ،عنيد، ولا يعرف الوسط، حتى أنه لا يميز من الألوان سوى الأبيض والأسود. من يحبه، يحبه للأبد، ومن يكره، يكرهه للأبد، ولأنه يحبني، فهو يتحمل كل هفواتي.
أعرفه من المرحلة الابتدائية، يوم جاء بحذاء افتخر أنه هدية من خاله المستقر في ايطاليا، ومرت فترة نقول عنه «علي الطلياني «، رأيت خاله مرة واحدة بعد سنوات حين عزمني على عرسه وانقطع الحديث عنه حين سافر إلى ايطاليا بعد شهادة البكالوريا وعاد يكمل دراسته بعد سنة، وحين سألته عن خاله طلب مني أن لا أذكر اسمه ثانية
ولم أعرف ما حدث ولأني أعرف علي وطبعه العنيد، لم أفاتحه بالموضوع ثانية، ولكن من المؤكد أن خاله كان عكس توقعه..
مسح «علي» خده المصفوع، وخرج من المكتب بعد أن ألقى نظرةً عليّ عرفت أنها نظرة وداع، ومن المستحيل تغيّر نظرته الآن، سيبقى يحبني إلا أنه لن يكلمني بعد الآن، وفكرتُ في نفسي لِمَ فعلت ما فعلته، ألم يكن بدافع الحبِّ والخوف عليه، ولكن أيحق لي أن اصفعه؟، مهما كانت العلاقة التي تربطني به.
جلستُ خلف مكتبي، أشربُ المتبقي من قهوتنا، متجاهلاً الملفات التي تنتظر التدقيق فيها، مفكرا ب»علي» المصمم على الزواج من «حنان»، سكرتيرة المدير والمفضوحة بقصصها الغرامية معه، ولم أكن أدري حزني على فقدان علي أم زواجه من حنان.وحين نهضت ارقب الشارع وجدت «علي» يقطعه كمن يصعد جبلا، وقد اكتشفت على ضوء الشمس أن قميصه أرزق اللون وليس أخضر كما بدا لي على ضوء المكتب.