ما يعني أنّ هناك الكثير من الآبار جافّة، أو تُجفّف بحكم الاستخدام المستمرّ غير المدروس، وكذلك تبقى هناك آبار تغذَّى بينابيع غزيرة، فتظلّ دائمة الامتلاء، وتتجدّد عصارتها بشكل مستمرّ، كذا الكتّاب، منهم مَن جُفّ باكراً، ومنهم مَن كان قد بدأ جافّاً أصلاً، معتمداً على وسائل تغذية، وموادّ تقوية، كي يتمكّن من الإقلاع. أي الانطلاق، وهناك مَن يكون بحراً متجدّداً، يرفد مخزونه دوماً بالجديد والمبدَع، فلا يكرّر نفسه، ولا يتوكّأ على أحدٍ فيما يبدعه. أي أنّه لا يمارس المَتح المُجعجع من بئر الإبداع، بل يكون الامتلاء حليفه..
يمكننا إسقاط ذلك، على المراحل العمريّة، فكما تكون هناك طفولة أدبيّة، أو مراهقة أدبيّة، أو نضج أدبيّ، فلا بدّ أن يكون هنالك، قياساً على ذلك، شيخوخة أدبيّة. لكن هل نعني بالشيخوخة الأدبيّة، أولئك الكتّاب المتقدّمين بالعمر، أم غيرهم..؟! شيء من هذا وشيء من ذاك، إذ يتبدّى للمتابع للصحف والدوريّات العربيّة، أنّ كثيراً ممّن تنصّبوا بحكم التراكم والعلاقات الوطيدة، في مناصب إعلاميّة، باتوا يهذرون، أو يثرثرون بيوميّاتهم، أو ذكرياتهم، فيما مضى من أيّام مجدهم وعزّهم، الذي يظنّونه مستمرّاً، لكنّهم لا يعلمون أنّ الاسم الكبير، أو المضخَّم المفخَّم إعلاميّاً، لا يضيف إلى صاحبه الهيبة المزعومة، بل يستحيل أن يقبل الجيل اللاحق، «الأطفال، أو مراهقو الأدب. بحسب توصيف مشايخه»، بثرثرات لا تقدّم جديداً إبداعيّاً جدّيّاً، فمعارف وعلوم الكثيرين من هؤلاء لا تتعدّى تلك التي عفا عليها الدهر، ولا يمتّون إلى الفكر المعاصر بصلة، بل يتخفّون خلف شعارات واهمة حول وجوب التمسّك بالأصالة؛ الأصالة التي تعني في نظرهم التخلّف لا غير، كما أنّهم نتيجة عقد نقصهم الكبيرة والكثيرة، المنعقدة على نفسها، لا يستطيعون تقديم أحدٍ، إلاّ بعد أن يباركوه ويعمّدوه، بعد تقديمه طقوس الطاعة والولاء والتبعيّة لهم، أي يريدون إمّعات، لا يريدون مبدعين مجدّدين. يبحثون عن مياه تستنقع، كي تستر روائحهم، لا يتقبّلون التجدّد، لأنّه يعرّيهم، ويكشف زيف ناطحات سرابهم، التي ارتزقوا بها طويلاً وكثيراً.. يريدون أزلام أدب لا رجال أدب. كلّ تجديد في عرفهم هو مروق، وكلّ مجدّد هو «خروق». بمعناه العامي.
نقرأ/ أقرأ، للكثير من الأسماء التي تكرّست طواطم للأدب، موادّ يخجل أيّ مبتدئ من كتابتها، تعاني ركاكة وضعفاً وضحالة وبؤساً وإفلاساً، رغم ذلك، فإنّ الاحتفاء بتلك الكتابات يكون قائماً على قدم وساق، تهليلاً وتصفيقاً وتعظيماً، بالطبع يكون ذلك من قبل المفلسين من أمثالهم، القيّمين على تلك المنابر التي توقف لهم، ولشباههم.. أو أنّه يكون من قبل طامعٍ في نفوذهم، متسلّقٍ سلالمهم الهشّة. كما أنّهم يكونون دائمي التأفّف من المشاغل الكثيرة، ومن تبعات الشهرة وآثارها السلبيّة، من دون أن يتنازلوا عن أيّ من تلك المهامّ التي يتأفّفون من وطأة مسؤوليّاتها ليل نهار.. يغدون متحدّثين بارعين، وهذا يسجّل لهم، يخطفون الألباب بأحاديثهم الغنيّة الشائقة، ذلك بحكم تراكم السنين، واحتراف المجالس، فالمجالس، كما يقول المثل، مدارس، وذلك بعد أن تمّ لهم الأمر واستقام، بعد أن ضمنوا تأمين مداخيل ثابتة تدرّ عليهم أموالاً وفيرة تسدّ حوائجهم، وتتكفّل بضرورات ترفهم؛ ذاك الترف الذي يتمتّعون به على حساب السُّذّج من الطامعين بتوصية من قبلهم أو تكفّل دعائيّ لهم. كما يحاول بعضهم تعويض ما فاته، أي تعويض نقصه، بالاستزادة من طيّبات ما خلق الله، مقتنصين المعجبات أو الكاتبات المبتدئات الطامعات في شهرة سريعة، عبر تأمين وسائل الدعاية، التي يتكفّل بها شيوخ الصنعة، الذين تمكّنوا بعدما تمسكنوا طويلاً، فوطّدوا الصداقات، ومتّنوا العلاقات..
عندما تغزو الشيخوخة مَن يركنون إلى خلّبيّة الأسماء، ونشوة الألقاب، ولذّة المدائح، فإنّها لا تترك مجالاً لعودة محتملة، أو توبة أدبيّة، فما ينكسر يستحيل تجبيره، وإن تمّت عمليات جراحيّة تجميليّة، فإنّها ستكون ترقيعيّة غير فاعلة.. كما أنّ هناك شباباً، من ناحية العمر، غزتهم الشيخوخة الأدبيّة، فأوقعتهم صرعى، وأودت بهم أدبيّاً، بتملّص أدواتهم غير الممتلكة أصلاً من قبلهم منهم..
معروف شعبيّاً، أنّ الإنسان كلّما كبُر عمريّاً، فإنّه يصبح كالطفل الصغير حساسيّة، أي يصبح مفرط الحساسيّة، يكتسبها بفعل الزمن الذي ينعته بالغادر، يبدأ بتأويل أو تفسير كلّ قول أو حركة أو فعل، من وجهة نظر مخالفة، يرتكن إلى نظرية المؤامرة، المعمول بها، في كلّ محفل، يرتاح لدور الضحيّة، مختلقاً إحساساً بأنّ كلّ المحيطين به أعداء يتربّصون به، ويكيدون له.. سارقاً من نفسه وممّن يراهم أو يتحدّث معهم، لأنّه لم يعد قادراً على القراءة والاختلاس أو السطو من الكتب..
أكتب ما أكتبه، من دون أن أستحضر جناية فرويد في ارتكاب جريمة/ فضيلة، قتل الأب أدبيّاً.. إذ أنّ أولئك المرضى - وينطبق عليهم القول تماماً - يحتاجون إلى المسايرة والملاينة والتعاطف والشفقة.. إنّها الشيخوخة الأدبيّة، ويجب مراعاة حساسيّة الشيوخ المفرطة. كما يجب تبرير عدم تنحّيهم، وعشقهم المزمن للأضواء التي أعمتهم، وأعتمت دروب بصائرهم..
لا أدري هل سمع معظمهم بمقولة همنغواي: «إنّ الصحافة، بعد نقطة معيّنة تصبح تدميراً للذات بالنسبة لكاتب إبداعيّ جادّ».. أم لا..؟! فكيف بكاتب غير جادّ،. انتهت صلاحيّته الصحافيّة والأدبيّة...؟! ولا أدري هل يقتنع بعض المتنصّبين كشيوخ للأدب بأنّ مدد صلاحيّاتهم قد انتهت، وأنّ عليهم التسليم بأنّهم باتوا يشكّلون عالة لا تنفع معها هالات التفخيم والتعظيم السابقة.. ألا يَجْدر بأمثال هؤلاء الانزواء للراحة والإراحة، وإلاّ فالقلق المزمن سينهشهم، والإقلاق لن يزايلهم..