أن لا يختلط الحبر بالدم, يعني أن لا يختلط بالعائلة والنسب والعِرق والطائفة والمذهب وأيّة عقيدة دينية أو سياسية, ويعني أيضا أن لا يختلط بأحمر النقود أو أخضرها أو أزرقها أو قل ما شئت من الألوان, ويعني كذلك أن لا يختلط على هذا الحبر واجبٌ بواجب وصوتٌ بصوت ونداءٌ بنداء وكأسٌ بكأس وأمواهٌ بأمواه وأهواءٌ بأهواء وقبلةٌ بقبلة..
أن لا يختلط الحبر بالدم, يعني أن يخرج الأول, دون الثاني, من العروق وإلى العروق, فيكون دماً من نمط خاص, عابرا للكيمياء وللخيمياء وفوق الكيمياء والخيمياء, يعني أن يكون قادرا على إبطال كيمياء الموت, كيمياء الخديعة والدسائس والمؤامرات, كيمياء أمراء الحروب والقصور وملوك المال والمخدّرات والتيجان وخواتمهم وأختامهم وموائدهم ومخادعهم, وأن يكون قادرا على إبطال كيمياء مصرّفي الأعناق والعابثين بأرواح البشر, المستسهلين قطع الأعناق.
أن لا يختلط الحبر بالدم, يعني أن ينتصر الحبر للانسان باختلافه عن الوحش, أن ينتصر للكلمة في نزالها مع الأنياب, وللّسان في نزاله مع الحراب, وللشفتين في نزالهما مع البارود, يعني أن ينتصر لصوت الناي على لعلعة الرصاص ولرائحة الياسمين المنبعثة من الدور على روائح احتراق ستائر شبابيكها وما تخفيه من حكايات وأحلام, وللزقزقة والثغاء على العواء والهدير والزئير, وللرضيع البضّ الصغير على كل كاسر كبير.
أن لا يختلط الحبر بالدم, يعني أن ينازل الحبر ما يشوبه من دم حتى يهزمه, يعني أن يقرأ باسم نفسه من أجل أنّه وجد ليكون دما فوق الدم وعابرا للدماء.
“ في البدء كان الكلمة !” لا بد أن يكون لها تتمة: والكلمة صار الحبر, والحبر صار الإنسان! وماذا يعني الإنسان دون كلمة صيّرته وحبرا رسم حدود وجوده الثقافي؟ إنّه الوحش بعينه!
في نداء الثقافة, دعوة لإحياء مجد الكلمة, لإعادة روح الله إليها, أعني روح الإنسان الذي صار على نحو إلهٍ أحبّه في نفسه وأحبّ نفسه فيه, إلهٍ خرج عن يهوه أو أخرجته, منه وعنه, كلمة انتصرت على الوحش فيه. لكن أية كلمة هذه التي يعنيها نداء الثقافة؟ أليست هي الكلمة التي تتمكّن من الوحش في الإله- الإنسان, أو الانسان-الإله!؟
في نداء الثقافة, كلمة تمسح الغبش عن العيون, كلمة تنازل, على صغرها وربّما خفّة وزنها, سموم الشاشات وتنزع شيئا من شحنتها التحريضية القاتلة. أليست شاشات اليوم أشبه بوحش أسطوري يبحث عن الجثث فيلتهمها ويلعق دماءها ثم ينفثها في هيئة قابلة للتضاعف مرّات ومرّات!..الشاشات وحوش تأكل القتلى وتفرِّخ المزيد من القتلى!
وأمّا نداء الثقافة فمن أجل كلمة تبطل سموم الأضواء, كلمة ترفض تحويل الجثث إلى دمى حاضنات لبيوض الموت, دمى تستجدي المزيد من الفناء.
في نداء الثقافة, كلمة من أجل أن لا يقبل أحد أن يتحوّل إلى خرطوشة في بندقية أحد, مهما علا شأن هذا الأحد؛
في نداء الثقافة, كلمة من أجل أن يربأ كل أحد بنفسه عن أن يكون أداة من أي نوع بيدٍ تصافح وتطعن بالسهولة نفسها, أو أن يكون أداة بيد أيّ كان, كائنا من يكون؛
في نداء الثقافة, كلمة من أجل أن يسمو الانسان بنفسه فوق وضاعة أن يكون رقما في قطيع, يسام ويساق ويحشر في الظلام؛
في نداء الثقافة, كلمة من أجل أن يعتدّ الإنسان بتفرّده وبكرامته الشخصية, وليس بكرامة أحد يتماهى مع القطيع قبل أن يزجّه في الأتون, ومن أجل أن يغدو ممكنا التفريق بين نداء زعيم الطائفة أو القبيلة أو العشيرة, وكل زعيم, ونداء الغريزة, وبين الانتماء إلى ميليشيا ما أو مذهب ما والانتماء إلى غريزة, وما أكثر الاختلاط هنا وما أصعب التفريق؛
في نداء الثقافة, كلمة من أجل أن يعي الإنسان مصلحته خارج الانتماءات الجبرية, وأن يدرك معنى عماء المصالح, ووهم المصلحة الذاتية الذي غالبا ما يصحو متأخرا عليه, ويا لمرارة الشعور بفوات الأوان, ويا لبؤس التوبة المتأخّرة التي تستجدي رحمة السماء!!؛
في نداء الثقافة, كلمة من أجل أن يدرك الإنسان المعنى الأخلاقي والسياسي لمشاركته في هذا الفعل أو ذاك, كأن يدرك معنى الاعتياش على صناعة السلاسل والقيود مقارنة بمعنى استخدام هذه وتلك, ومعنى حماية اللصوص والأوغاد وميّتي القلوب, مقارنة بمعنى السكوت على المظالم والتستر على الظالمين أو إبداء اللامبالاة حيال ظلمهم, أو إغماض العين عن نداء المظلومين؛
في نداء الثقافة, كلمة من أجل أن يخجل المرء من وحشه, من أجل أن تغدو تلبية نداءٍ يخاطب غرائز الوحش القابع فينا من الكبائر, من أجل إنسان لا تلقى دعوة إلى القتل والتخريب عنده صدى, حتى لو لبست هذه الدعوة ألف ربطة عنق أوعباءة أوعمامة أو قلنسوة أو تظللت بأبهى اليافطات والشعارات؛
في نداء الثقافة, كلمة تعلي من شأن قيمة التسامح وتنبذ الحقد والكراهية, كلمة من أجل أن يبحث الإنسان عن وحش في نفسه وليس في غيره, فإذا به التخلّف والجهل والتزمّت والحقد والوحشية..؛
في نداء الثقافة, كلمة من أجل أن يكون فعل الاختيار, كائنة ما تكون طبيعة الأشياء التي يختار بينها المرء, دائما حرّا ودائما مستقلا, في الحدود القصوى الممكنة للحرية والاستقلالية؛
في نداء الثقافة, كلمة من أجل بناء الشخصية, بما هي مقولة حرّية, وبما هي على تضاد, بالضرورة, مع جميع الانتماءات العمياء المنتجة لتقوقع يدفع نحو المزيد من التخلّف والتقهقر والوحشية؛
في نداء الثقافة, كلمة تفصل بين الحبر والدم, كلمة ما زالت تدوسها الأقدام الثقيلة التي يقال إنّها تصنع التاريخ. هو التاريخ يصنع بالدم لكنّه يكتب بالحبر..
وفي نداء الثقافة, دعوة لكتابة التاريخ الحقيقي, من أجل أن ينبعث فينا دم المغرّر بهم والمضللين والأبرياء, الذين ذبحوا ويذبحون في أرجاء مختلفة من أوطاننا, حبراً يصنع الحياة ويعلي من شأن الحياة ومن القيم المؤسسة لها بما هي مقولة حرّية...
ربما يكون ضئيلا ما تستطيعه اليوم الثقافة التي صيّرتنا من وحوش إلى بشر في مواجهة الرصاص, وربما لا يكون مهمّاً ما تستطيعه مقارنة بما لا تستطيعه! فما لا تستطيعه الثقافة, أو ما أتوهّم أنّها لا تستطيعه, بما هي رافعة لنا فوق الوحش, الذي يشكّل الابتعاد عنه مغزى حياتنا الثقافية, هي لا تستطيع إلا أن توجّه نداءها: تنقية الحبر من الدم!
وأمّا الدم فليس لأحد أن ينقيه من الحبر. وهكذا نحن, أقوياء بالحبر, ضعفاء بالدم! ولعل مجد الثقافة يكمن هنا, وهنا تكمن مسؤولياتها الجسام. وبعد, ففي نداء الثقافة نداء إلى المثقفين من أجل أن يجدوا حبرا يعيد الدم إلى العروق.