في « أسوق الغمام» يؤسس الشهاوي بنيته اللغوية على المعجم الصوفي ويقيم تناصاته الكثيرة مع أقطابها لكنه يشد رحاله نحو تاء الأنثى الجسد والروح يريد إعادة الخطاب الصوفي المقتنع بالغزل بالأنثى, وهو يريد الخالق, نحو الأنثى ذاتها, فلا يتعداها ولا يتجاوزها بل يدور في فلكها برقصة مولوية تقوم على أرضها وتعلو نحو سماها « كل جملة ناقصة / تنام في يدي / تكتمل بالسلام عليك».
والصوفية في اعتمادها مفهوم الفناء في الخالق وطريقها بين الخلق والحق ذوبت الضمائر في « هو» فأي جلاء لضمير آخر, ما هو إلا عارض زائل ليكشف عن الغائب الشديد الحضور , في حين يستبقي الشهاوي أناه وأنا الأنثى في مثنوية لا تقوم على مفهومي الخير والشر بل الخير والخير « سأنفخ روحي / في شفتي نايك/ فلا يعودنّ يبكي / أو يسأل عن أصله/ سيبدأ ترنيمة / ويكتب فتحا جديدا لشمسين في يدك» وهنا تتبدى معارضته لكل من جلال الدين الرومي وشمس الدين التبريزي.
والتناص الذي يريده الشهاوي لا يقوم على المشاركة أو مد الدلالة أبعد فأبعد على ذات المحور الأفقي أو العامودي بل يجبّها « كتب في قلبي عشقك/ وأيّدني بروح منه» « خلقني الله على صورتك/ فأنت عين كل شيء/ فقبل حبي عبدتك» وهو إذ يقوم بذلك يعيد أسطرة الذاكرة الجمعية للإنسان , فالعشق هو ملح الأرض وبه تطهر الجروح التي أنتجتها ذكورية جاهلة بأصلها وبمنتهاها « ما نفع الحج/ إن لم تكن الكعبة/ قلبك» هكذا يحرق معدن الدال ويعود لصفائه الأول لتنجز يد العاشق دلالات طازجة بريئة من إثم الخطيئة , فإذا كان العشق يوما هو الهبوط فلا يكون الصعود إلا به وبهذا يعود للإنسان العاشق شرف الكشف عن لغة ,هي وعاء الفكر وما ينضح منه , تنتج حياة تعاش كغاية لا وسيلة لآخرة لأنه لا يمكن تأسيس غاية على وسيلة بل الغاية تؤسس بغاية والطريق بينهما متنافذ وبرزخي المعنى, فالحياة غاية والآخرة غاية ولا يدرك هذه الحقيقة إلا عاشق وعاشق .
والشهاوي الذي يعتمد الخطاب الموجه للأنثى في « أسوق الغمام» لا يريده تأسيسا لها ولا أن تحل به رغم ما تظهره طبيعة اللغة المستعملة بل هو اكتناه ذاته لمعرفتها وتحضيرها لنار العشق , فهو خطاب موجه لتاريخه الذكوري المفعم بفكرة الإلقاء وأنّ الآخر هو الذي يتلقي ولا غاية له سوى ذلك والرجل هو العاشق والأنثى هي المعشوق , وقد قلنا أنه يجبّ الدلالات , ففي العشق لا يوجد سوى عاشق وعاشق ,فيتحرر الحب من ربقة الملكية إلى زمكان العطاء المطلق» يموت العاشق على ما كان عليه من عشق / ويبعث على ما مات عليه» « حرة/ اتركي نفسك لي/ لا تحسبي خطوات ريحك/ لأن الريح لا تعرف الخوف/ والعشق لا تحصيه آلة/ بل يقيسه غمام».
إن تأريض الصوفية , إنْ جاز القول , هو احتفاء بالإنسان الفاني والخالد الذي خلق على أحسن تقويم وباستقلالية, فلا غيره قد حمل الأمانة التي رحمت منها غيره من المخلوقات وهو بهذا يستحق هذا الاستقلال الذي به يصير خليفة الخالق بأرضه والإنسان هذا الواحد والمتعدد في الرجل والمرأة تكون صوفيته بذوبانه بإنسانيته التي تصبح كاملة بالعشق؛ لذلك الشهاوي يسوق غيم الرجل إلى بحر الأنثى « ماذا لو نفذت كلماتك؟/يتكلم جسد البحر/بكلمات أخرى/ .
Bassem-sso@windowslive.com
«أسوق الغمام» لأحمد الشهاوي صادر عن سلسلة كتاب اليوم القاهرة لعام 2010