تحيلنا إلى مستويات من الكشف والتحليل والمقاربة لاشكالية انسانية قديمة- جديدة عبر فحص الانساق السائدة المهيمنة، ولاسيما على المستوى الثقافي، أي مستوى «الهيمنة الثقافية للمذكر على المؤنث» ما يعني تالياً أن ازاحة السلطة الذكورية ستجد تعبيرها في الرهان المضاعف على «التعبير النسوي الابداعي» فضلاً على تحرير المعنى بالوعي الانثوي الذي يجد في الابداع دالّه الفاخر.
ولكن ما يميز أطروحة الكاتبة والناقدة السورية- اللبنانية خالدة سعيد في كتابها الجديد «في البدء كان المثنى »رفضها للتراتب في العلاقة أو في الحضور في العالم بين الرجل والمرأة «باعتبار أن الوجود والحضور مثنى متكامل لا وجود فيه لأحد دون الآخر» ووقوفها على الانثوي بين الخصوصية والانسانية، لكن الخصوصية ليست نقصاً أو امتيازاً ولا تحدد درجة الانسانية في أي طرف من الطرفين ولا تحدد المستوى الأخلاقي أو مستوى الذكاء والأهليات كما تقول الناقدة، وهي تسبر أنساق المرويات والتصورات التي ذهبت لتصورالمرأة على غير حقيقتها وترصد آليات التفكير في التصورات المقنعة لتواجهه بالتحليل وبالرهان على غزارة النتاج الابداعي بالانتباه إلى المفارقة بين القناعات النظرية وإشكالية العلاقة الشخصية بين الانثوي والذكوري. ثمة رهان إضافي على «مفعول القوانين العادلة الموحدة كضمان لتكافؤ الفرص في شتى الميادين» وعلى التربية بما هي ممارسة للحق في الارتقاء ولحرية الارتقاء والتقدم، «فإن هناك رهاناً مكافئاً على البحث والتحليل، على التفكير الحر والعمل، وبالأخص على غزارة التعبير، وحرية التعبير والاحتفاء بالتعبير والاصغاء إلى ما يبطنه، أي الاقبال على الانتاج والابداع بمشاركة نسائية عالية.
هكذا تستهل الناقدة فصول كتابها الستة لتبرز منهجها في أطروحتها وتشيع خطابها الذي ينطلق من القول بالثنائية المجتمعية رغم ما تكرس من سلطة ذكورية على المرأة استبطاناً لجذور النظرة الدونية للمرأة التي عززتها الكثير من القوانين مثل قانون نابليون عام 1804 الذي صادر على النساء أهليتهن القانونية والاقتصادية في مقابل من أنصفوا المرأة من رجال مستنيرين، حيث خاض معركة تحرير المرأة بقرار مصيري، مستضيئاً بالعقل والعلم والتاريخ، على أن الناقدة تؤكد على أن نتاج قاسم أمين ينبغي أن يقرأ في اطار الحركة الفكرية العربية التي طرحت اشكالية النهضة وبلورت أسئلتها الأساسية وهي تستقرئ مقومات منهجه وتفكيره «المبني على قاعدة علمية تاريخية اجتماعية متماسكة وتلفت إلى أهميته كمفكر تاريخي اجتماعي أولاً، وكمصلح اجتماعي ثانياً، لتحلل ملامح منهجه ومنطلقات اصلاحه، ومضمون الاصلاح لكنها تبدي ملاحظات وتحفظات بصدد حضور المرأة في منهجه، أي بحضورها المزدوج الوظيفي والانساني، دون أن تغفل عن الشرط التاريخي الذي أنتج قاسم أمين وقراءته ضمن ذلك الشرط، بمعنى آخر تتجه الناقدة بقراءتها الفاحصة إلى الوقوف على المقدمات والنتائج، في كتب ونظريات- أمين - واستنطاق فهمه الجديد للأخلاق في اطار الالتزام بالمعرفة وبإعادة النظر في كل شيء. ثمة مراجعة تاريخية في فكر قاسم أمين تساءل المعرفة كما الأخلاق ومنهما إلى الخيار والمسؤولية، لكنها تطرح سؤالاً ضرورياً حول ما قدمته حركة قاسم أمين من أساس عقلاني ومنطلق علمي صالح كان يمكن أن تستند إليه التيارات والأحزاب التي تنهض على أفكار ورؤى متكاملة، أين كانت قضية تحرر المرأة من هذه التيارات، هل رأت صدعاً جذرياً في البناء الاجتماعي لا يقوم اصلاح أو تغيير دون البدء به، وهل شكلت من ثم قضايا تحرر المرأة ونهوضها ركيزة في تصورها العام؟!
فالمرأة عندها كائن بغيره لا بذاته، وإنها في ظل الأوضاع التقليدية مثال نموذجي للاغتراب والعبودية لكن ذلك ما يشكل حافزاً لها لتقف أمام الزمن والموت، تقول الناقدة إن «الخصيصة الانثوية أعظم رد على الموت» وأن التضاد الذي يوقفها باستمرار بين حدي الحياة والموت هو سبب عظمتها وبلائها التاريخي في آن.
لتحيلنا إلى ما يضع حداً للاستقالة التاريخية من الكينونة الفاعلة، أي أن يكون للمرأة مشروع ابداع وتسام لتصير كائناً بذاته وتخرج من محدودية الوظيفة الجنسية إلى أفق الانسان وبمعنى آخر ترسم الناقدة أسساً للتحرر رغم اكراهات أخرى على الجسد الانثوي «مختار ماي الباكستانية، عائشة عودة الفلسطينية» نموذجان بل ضحيتان، تكرسان في زمنين مختلفين ظلماً طليقاً على الجسد وتالياً على النص الانثوي «سهير سلطي» في مقابل استشرافها بنظرة تفاؤلية إلى نماذج نسوية مثقفة وملتزمة وعياً وموقفاً وفكراً وكفاحاً إذ تتوقف عند لور فعيزل المحامية التي تجاوزت حدود المهنة المرتبطة بالدفاع عن أفراد إلى الدفاع عن العام والانخراط في مهمة تغيير الأوضاع القانونية للانسان عامة وتغيير الوعي بهذه الأوضاع أي أنسنة الحقوق في مواجهة «الجنسنة» بحثاً عن خصوصية أخلاقية نسوية، وهكذا تستحضر فاطمة المرنيسي في كلامها الفاعل وفي أدبياتها ومواقفها وحقولها المعرفية، وروز غريب التربوية الاصلاحية والناقدة العقلانية كما التجربة العامة للباحثة سعاد الحكيم ومن ثم تذهب لمبحث الابداع النسائي والخصوصية لتفض التباس الخصوصية لتقول :إن الابداع الذي يشترط الخصوصية ملزم بتجاوزها بمعناها الاثني الاجتماعي أو الجنسي، فبقدر ما تشكل الخصوصية رافعة للابداع، يشكل الابداع نمواً وأفقاً جديداً لها.
لتقرأ مي غصوب في وداعاً بيروت وفدوى طوقان في سيرتها من وراء حجاب رواياتها، ولاسيما رحلة جبلية، تستدعي الناقدة، المرأة الكاتبة ونماذجها أندريه شديد، لبانة بدر، سحر خليفة، أسيمة درويش في مدوناتهن الروائية كما مدوناتهن الشعرية مثل سنية صالح وناديا تويني وسلوى روضة شقير ومنى السعودي وانجيليكا فون شويدس- قصاب باشي، اللاتي يعكسن مشروع الانسان المثنى. وعلى الرغم من انتقائية الأسماء المختارة ومشروعية مقاربة أعمالها إلا أن الناقدة بفحصها لتلك التجارب النسوية الدالة في رؤيتها الفكرية للمؤنث والمذكر تنحاز إلى الابداع الحقيقي دون أن تكرس مصطلح الأدب النسائي أو القول بكتابة نسائية تمتلك ملامحها الخاصة، لتقارب ما تسميه بمشروع الانزياح المعرفي وبرأيها إن الابداع النسائي بموجب ذلك الانزياح كما تكشف عنه أعمال - قليلة- يؤسس لتخلخل الرؤى والأحكام الموروثة ويعزز مساءلة المستقرات والنهائيات الاجتماعية- الثقافية لعل ذلك ما يشكل تأملها وبحثها من موقع الناقدة لتلك الأعمال الابداعية ولاسيما في مجال الرواية التي تكشف كيف تتلامح سمات ونظرات تفتح الثغرات في جدران النهائيات والمسلمات.
في البدء كان المثنى يعزز حالة الجدل حول الكتابة النسوية لمقاربة المشهد الثقافي في اختلافاته وأنساقه وسياقاته، جدير بالانتباه لناقدة تذهب لكبرى اشكاليات حياتنا ومنها وعي الذكورة والأنوثة وفي ضوء نتائجها التي تتضمن قيمة بحثية ولاسيما في بعدها التطبيقي العميق في اكتشاف رؤى وجماليات تؤسس لفعل التحرر ارتباطاً بتحرر الآخر- الرجل فكرياً من سلوكيات وموروثات لتكتمل الصيغة الانسانية بالمثنى، كصيغة عادلة تتأبى على موضعتها في قوالب جاهزة، تحريراً للمعنى الانساني الذي يقول بالابداع كفعل تحرر وتأسيس حضاري، مشروط بوجود المرأة والرجل معاً..
الكتاب: في البدء كان المثنى - الكاتبة: خالدة سعيد - الناشر: دار الساقي- بيروت - الطبعة الأولى: 2009