خصوصاً بعد أن اسـتـرخـت الدول الـقطرية و ضمنت علمها و نشيدها و نظامها ، و سيَّجت حدودها بمخافر الـحـراس ، و الأنـظـمـة الـجـمـركـية ، و فرق ملاحقة التهريب ، و حجز ممثلوها الدبلوماسيون بـطـاقاتهم في مختلف حفلات الكوكتيل التي تقيمها جامعة الدول العربية لتملأ فراغها السياسي ، و مـنـظـمـة الأمـم الـمـتـحـدة في مـنـاسـبـات عـجزها الفاضح عن الوفاء لميثاقها في ضبط إيقاع المنازعات الدولية المفخخة بالحروب و المجازر !
و الشــؤون الـداخلية في أقطار العـرب المسـتـقـلة بالشكل ، توحي للوهلة الأولى بسياسـات إنـمـائـيـة و أمـنـيـة و اجـتـمـاعـيـة و بـيـئـيـة ينهض على قـواعدها البنيان الوطني و تقوم الدولة ، و تـسـتـقـر هـيـاكل النظام ، قـيـاسـاً على أشكـال الممالك و الجمهـوريات و طبيعتها في عالمنا المعاصر ، هذه الشـؤون الداخلية بهذا المعنى لا بد أن تكـون حصينة من العبث بأصابع تمتد من خـلف الحدود لتملي سياسات بديلة ، و تقترح تشريعات و قوانين ، و تكسر معادلات ربما تكون قد أصـبـحـت في هذا الـقـطـر أو ذاك في صميم الـعقد الاجتماعي و السياسي ! فليكن التدخل في شـؤون داخـلية كـهذه خطاً أحمر ، ما دمنا قد سلمنا منذ وقت طويل بالخصوصيات القطرية التي بلغت حد القداسة !
لكن هـذه الخـطـوط الحـمـراء ، لا تعـدو أن تـكـون قمة جبل الثلج التي تخفي تحتها فضائح الـخـيارات السياسية الاستراتيجية الكبرى التي تفضي في النهاية إلى اختراع أمن قطري موهوم ، يـصـبـح نـقـيضاً للأمن القومي العربي ، و تتحول فيه الأمة إلى أمم ، و مصلحتها إلى مصالح مـتـعـارضـة ، و مشـروع وحدتها إلى خرائط تجزئة تمحو من حياتنا حقائق التاريخ و الجغرافيا و الـلـغـة ، و تـؤسـس لـعـصـر جـديـد من التناحر القبلي الذي يقتات من عافية العرب ، و يكسر ظهورهم بأثقال لا تقوى على حملها أمة من الأمم في أي عصر من العصور !
الخيارات السياسية الاستراتيجية الكبرى هي المقصد الأخير للشعارات الملتبسة التي تنادي بـعـدم الـتـدخـل في الشـؤون الـداخـلية بين قطر عربي و آخر ، و هي الخيارات التي توصل في الـنـهايـة إلى حـرية انـتقاء العدو و الصديق ، و حرية التحالف مع العدو لمصلحة الأمن القطري الخـادع ، و إعـلان الحـرب على الصديق في خدمة تحالف يمزق أمن الأمة و يبني على الحدود فـيـمـا بـيـنها جدراناً من الفولاذ ، و هي الخيارات التي تتواطأ على نبض المجتمع العربي و قواه الحية التي تعتنق مبدأ العروبة ، و تنحاز لأحلامها القومية في الوحدة و التحرر !
التطبيقات العملية لمثل هذه الخيارات المتواطئة على الأمن القومي العربي ، شهدنا و نشهد أمـثـلـة كثيرة عليها من احتلال العراق إلى حصار غزة ، حيث وقف معظم العرب متفرجين في ذلـك اليـوم المـأسـاوي الـذي سـقـطـت فيه بغـداد تحت جنازير دبـابـات الاحتلال ، و روجوا في بياناتهم الإعـلامية أفكاراً تفيد أن ما حدث هو شأن داخلي عراقي يحتم على العراقيين أن يقلعوا شوكهم بأظافرهم ، دون أي حساب لتداعيات هذا الاحتلال على مستقبل أمنهم القومي الذي تلهـو بـه الـيـوم الأعـاصــير على التـراب اليمني و هو يصطبغ بدم ساخن لا نعرف ممن يسيل و لأي هـدف ، و إلى متى سـيسـيـل ، بـعـد أن سـال عليه لعاب القوى الشيطانية التي تسرع إلى ارتداء قـمـصـان الصـداقـة في غمرة أوجاعنا ، و هي مصدر الوجع و مستثمر الدم الذي لم يخفِ علينا وجهه في صورة الذئب الجارح !
شـؤون قـطـريـة داخـلية مسيجة بالخطوط الحمراء أم خيارات استراتيجية كبرى تجعل من غـزة خـطـراً عـلى أمـنـنـا الـوطـنـي و القـومـي ، و من تفاهمات كونداليزا رايس ـــ ليفني بديلاً مـوضـوعياً عن ميثاق الدفاع العربي المشترك ، الذي لم يخرج يوماً من ثلاجة الجامعة العـربية ليرى النور ، قولوا لنا في أي اتجاه ســوف تكون الخطوة التالية يا أصحـاب الخـيـارات البائـسة التي تجلد ظهـور العـرب بالسياط ، و تقدم طاقات الورد لعدوهم على مفارق هذا الزمن المنذور للخطايا الكبرى !