من هو المخول بإعطاء الوكالات الاستخباراتية الأميركية (ومعها القوات المسلحة العسكرية الأميركية) حق التدخل في شتى أنحاء العالم..؟.
إنها العولمة، هذه العولمة، أي عولمة الإنتاج وسوقه العالمية الواحدة التي تديرها 500 شركة كبرى عملاقة متعددة الجنسيات باتت تجمع للمرة الأولى في تاريخ الرأسمالية بين السلطتين الاقتصادية والسياسية، وتشكل منبعاً لتحديات حقوقية تعكس صورة (فوق - قومية) للسلطة السياسية العالمية، وهي على عكس الرأسمالية القديمة، لم تعد تكتفي بفرض الأوامر المجردة أو تنظيم عمليات السرقة والنهب الاستعماريين، بل هي تعكف على بناء وإعادة تنظيم كل بنى العالم.
هذا التطور هو مايجعل العالم يمر اليوم في مرحلة انتقالية تاريخية كبرى من الاعتماد على القانون الدولي التقليدي الذي كانت تحدده أشكال التعاقد والمعاهدات بين الدول الأمم، إلى بناء سلطة سياسية عالمية تقوم على مفهوم إمبراطوري جديد للحق والقهر والإرغام.
مثل هذا المفهوم لايعترف بالطبع بحدود الدول وسيادتها ويعتبر من حق الإمبراطورية الجديدة خلق قواعد أخلاقية جديدة خاصة بها، والقضاء على الزمن التاريخي.
أي تعليق التاريخ واعتقاله، واعتبار نظامها سلطة دائمة وسرمدية وضرورية.
وفي هذا السياق يعاد اليوم وعلى عجل تلميع صورة نظرية «الحرب العادلة» المسيحية- التوراتية القديمة، التي تنطوي على إضفاء الصفة الطبيعية على الحرب، كما على التهليل لها بصفتها أداة أخلاقية للتصدي «للبرابرة» الذين يتصدون لسلطتها على أطراف الإمبراطورية.
إلى جانب نظرية الحرب العادلة، تتم بلورة صيغة «الحق البوليسي» التي تجعل من الأدوات الأمنية للعولمة وعلى رأسها الـ «سي أي إيه» وغيرها وحلف شمال الأطلسي الهيئات الوحيدة المخولة باحتكار العنف وممارسته في العالم.
الحق البوليسي يعني حق وواجب الكيانات المسيطرة في النظام العالمي الجديد في التدخل في أقاليم وكيانات أخرى، للحيلولة دون حصول مشكلات إنسانية، أولضمان تنفيذ الاتفاقات، أو لفرض السلم.
لقد باتت هذه المؤسسات الجديدة تتدخل الآن ليس انطلاقاً من الحق وحده بل أيضاً استناداً إلى الإجماع الذي يضفي الشرعية على هذا الحق البوليسي باسم القيم الكونية الشاملة.
ماذا يعني كل ذلك؟.. إنه يعني بالضرورة وبوضوح تام أن كل التدخلات العسكرية التي تمت منذ نهاية الحرب الباردة (حربا الخليج، معارك البلقان، وأفغانستان وباكستان، وصولاً الآن إلى احتمال نشوب حرب ضد إيران) حدثت بقرار مباشر من السلطة العالمية الجديدة، بهدف إزالة ماتبقى من عوائق أمام بروز قريتها الاقتصادية الموحدة، ولم تكن فيها القوات الأمنية والعسكرية الأميركية أكثر من أداة تنفيذية، ليس بقرار يصدر من بوش أو أوباما بل من غيتس وروتشيلد وغيرهم.
يجمع الخبراء الاستراتيجيون والسياسيون على أن النفط هو محور الصراع الدولي المتركز الآن في منطقة الخليج العربي، فأربع دول عربية في منطقة الخليج هي السعودية وقطر والكويت والإمارات تحتوي أراضيها وبحارها على كميات ضخمة من احتياطات النفط العالمي والغاز أيضاً وهي بالفعل تصدر مجتمعة ما نسبته 75% من كميات النفط الخام الخارجة من منطقة الخليج إلى شتى أصقاع المعمورة، وبنفس الوقت ورغم ما حققته عوائد النفط من تنمية اقتصادية واجتماعية تجاوز جميع المعايير العالمية، فإن هؤلاء الخبراء يجمعون على أن العلاقة بين النفط والأمن في الخليج العربي هي علاقة تضاد وليس اضطراداً بمعنى أنها علاقة عكسية.
إن أهم مصالح الخارج في الخليج العربي هي ضمان تدفق النفط، وضمان أسواق دوله القادرة على الشراء، فهذا هو الذي يحرك سياستها تجاه قضايا الأمن والاستقرار في الخليج ويدفعها إلى التدخل في شؤونه الداخلية.
وهناك أثر سلبي آخر للنفط يعود إلى زيادة تأثيرات الفكر المادي الاستهلاكي والإنفاق الترفي والبذخي، الذي أدى بدوره إلى تغير حاد في منظومة القيم الاجتماعية وهنا يجب على أبناء الخليج الانتباه إلى هذه الأمور ومحاولة استثمار العائد النفطي بطرق تقوي دعائم أركان مجتمعاتهم بعيداً عن الإنفاق المعولم، بما يضمن تحقيق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للأجيال الحاضرة والمستقبلية على حد سواء..
أمام هذا الوضع هل ندرك لماذا تطورت أجهزة الاستخبارات الأميركية من مجرد استخبارات أميركية إلى سلطة عالمية تشن الحروب وتشرف عليها، باسم الحق؟.