ولكن بالرغم من عدم لقائي شخصياً بهذا الرجل فإنه أثر في حياتي مرتين سأذكرهما في الأسطر التالية، مع ذكر عدة مناسبات قال فيها الفارس بعض الكلمات التي ذهبت مثلاً من بعده، والتي تدل على روح مرحة وذكاء منقطع النظير؟
أرجو من حضرات القراء ألا يستغربوا حين أقول إنني عرفت فارس الخوري منذ أن كنت في الخامسة من عمري : كان ذلك عام 1936 حينما كان الوفد السوري يتهيأ للذهاب إلى باريس للتفاوض حول استقلال سورية، وقد تم توزيع صور أعضاء الوفد على جميع المكاتب والمحال في (ساحة العاصي) بحماة، وكنت أتأمل طويلاً صور أعضاء الوفد جميعاً وخاصة صورة فارس الخوري برأسه الكبير وطربوشه القصير.
ولا أدري بأي شكل وبأي حق أقام عقلي الصغير «رابطة وثيقة» بيني وبين فارس الخوري لمجرد أن رأسي كان كبيراً أيضاً، أو لأن شعري كان طويلاً إلى حد جعل رفاقي بالحي ينادونني بلقب «الخوري» وقد تأكد ارتباطي بفارس الخوري أكثر فأكثر في العام نفسه (1936) حينما كنت أخرج مع الكبار في العراضات الشعبية فأسمعهم يهتفون :
فارس بيك يا عزيز
لا تنسانا في باريز
بدنا الوحدة الوطنية
إسلام مع مسيحية
وعندما عاد الوفد من باريس في خريف 1936، بالقطار عن طريق حلب خرج أكثر من نصف أهالي حماة إلى محطة القطار لاستقباله ، واصطحبني والدي معه إلى هذا الاستقبال الذي لن أنسى بهجته طوال حياتي!
وعندما بدأت أقرأ في العاشرة من عمري وما بعد كنت أتسقط أخبار «فارس بيك» في الجرائد والمجلات، وأضحك من صوره الكاريكاتورية التي كانت تنشرها له مجلة «المضحك المبكي» بين وقت وآخر!
وعندما داهمني «الهم الثقافي» أصبحت مطالعة ما يكتبه أو ما يقوله فارس الخوري ديدني ، وقد جمعت له عدداً من المفارقات والكلمات ونشرتها أولاً في جريدة «البيان» الإماراتية أواسط الثمانينات ، ثم نشرت مقتطفات منها في جريدة «البعث» بعد ذلك بحوالي عشر سنوات .
وسأذكر هنا ثلاثة مواقف للفارس ، والكلمات التي قالها في هذه المواقف وهي كلمات تدل على ذكاء لماح عرف به.
1- في عام 1937 كان فارس الخوري أستاذاً لمادة الحقوق العامة (أي القانون العام في مصطلحات اليوم) في معهد الحقوق العربي بدمشق.
وأثناء زيارة المفوض السامي الفرنسي، الكونت داميان دومارتيل، لدمشق طلب أن يزور معهد الحقوق وصادف موعد زيارته وجود الأستاذ فارس الخوري وهو يلقي محاضراته على طلابه، كان المفوض قد سمع عن الأستاذ وسبق أن اجتمع به مرتين في مناسبات معينة، وأحب أن يداعبه ويغمز من قناته مسألة.
- ماذا تدرس لتلاميذك يا سيدي الأستاذ ، هل تدرسهم «LA REvlution» (أي الثورة)؟
ورد الأستاذ فوراً بفرنسية فصحى:
- كلا يا سيدي الكونت أنا أدرس لطلابي معنى «LE Evlution» !
وهكذا لم يكتف الخوري بأن صحح كلمة «التلاميذ» إلى «طلاب » وإنما أنقص حرفاً واحداً (هو حرف R) من كلمة «ثورة» بالفرنسية فأصبح معناها «التطور» !
2- في أوائل عام 1946 كان مجلس الأمن الدولي ينظر في الشكوى السورية ضد فرنسا لإجبارها على الجلاء عن سورية وأراد ممثل سورية لدى مجلس الأمن فارس الخوري إعطاء درس عملي لأعضاء مجلس الأمن في عدالة الشكوى السورية فأتى مبكراً إلى المجلس بنحو ربع ساعة، ثم جلس في مقعد رئيس الوفد الفرنسي وراء اللافتة التي كتب عليها «France» !
وعندما وصل رئيس الوفد الفرنسي ورأى السيد الخوري يجلس في مقعده قال له:
- لقد أخطأت مقعدك أيها السيد هذا مقعدي! فرسم الخوري على وجهه علامة عدم فهم ما قاله الفرنسي وأتبع ذلك بإشارة من يده تدل على عدم فهم المقصود!
استشاط رئيس الوفد الفرنسي غضباً ورفع صوته قائلاً ومشيراً بكلتي يديه:
- ألا ترى اللافتة؟ هذا مكان الوفد الفرنسي ، وأما مكانك فهو هناك ، عند اللافتة التي تحمل كلمة «SYria» هناك ، هناك!
وعندما أشار الخوري من جديد إنه لم يفهم المقصود ، شد الفرنسي في شعره وقال:
- لعله الأفضل أن أشكوك لرئيس المجلس !
وعندها وقف الخوري وقال بفرنسية طليقة وصوت سمعه جميع الأعضاء الحاضرين:
- عجيب أمركم أيها الفرنسيون ! أنت لم تحتمل جلوسي في مقعدك لمدة خمس دقائق فقط، في الوقت الذي تحتلون فيه بلدنا سورية منذ خمسة وعشرين عاماً وتأبون الجلاء عنها!
وكان لهذا الكلام أثره في إقناع جميع الوفود بعدالة المطلب السوري وكان القرار بالجلاء عن سورية .
3- في النصف الثاني من الأربعينيات ، وحين كان فارس الخوري رئيساً للمجلس النيابي، وقف أحد نواب العشائر وكان شبه أمي وبدأ الكلام فقال:
- حضرات النواب «المحترمون»:
فصحح رئيس المجلس فارس الخوري قائلاً:
- بل «حضرات النواب المحترمين».
فقالها النائب بهذا الشكل الصحيح وتابع خطابه فقال .
- كان النواب المحترمين..
فقاطعه رئيس المجلس:
- بل «النواب المحترمون».
وعندها ثار النائب وقال مخاطباً رئيس المجلس بالعامية:
- ليش عم تتحطط علي يا فارس بيك / قلت أنا أولاً «المحترمون» فصححتها لي إلى «المحترمين» وعندما قلت «المحترمين» تريد أقول «المحترمون» شو بتريدني قول ؟ المحترمين ولا المحترمون؟
ورد عليه فارس بيك فوراً!
- لست أنا من أريد وإنما سيبويه هوالذي يريد!
ولم تنته علاقتي بفارس الخوري بعد وفاته في أوائل الستينيات ولذلك قصة طريفة ففي التاريخ المذكور سكنت في حي القصور بدمشق وكنت أستقل الحافلة (الباص) لأنه لم يكن عندي سيارة يومئذ وأمام موقف الباص في تلك الأمام كان هناك قضماني يراني كلما ركبت الباص أو نزلت منه، وكنت غالباً ما أحمل جرائد ومجلات في يدي.
وفي أحد الأيام تجرأ أبو محيي الدين القضماني وسألني :
- أستاذ أراك تحمل جرائد ومجلات بشكل دائم فماذا تفعل بها؟
- أقرأها طبعاً.
- وبعد قراءتها ؟
- نضع الجرائد على المائدة لنأكل عليها ثم نرميها، وأما المجلات فأحتفظ بها مؤقتاً.
- أستاذ شو رأيك في أن أعطيك كتباً محل الجرائد والمجلات وبالوزن نفسه ورق الكتاب صغير الحجم ولا يتسع لصر البزر والقضامة.
قبلت عرضه وبدأت أعطيه الجرائد التي تصلني وما يمكن أن أستغني عنه من مجلات، وهو يعطيني مثل وزنها من الكتب .
وفي أحد الأيام ناداني أبو محيي الدين وأراني في دكانه كيساً ضخماً مملوءاً بالكتب والمجلات القانونية والعلمية ، وعندما قلت إنه ليس لدي من الجرائد ما يكفي للمبادلة على ما يحوي الكيس من كتب قال إنه سيزينه ويعلمني بوزنه وبوسعي أن أقدم له المقابل بالتقسيط المريح، بل إنه تطوع بجمل بحمل الكيس (وكان وزنه 25كغ) إلى بيتي؟
ولا تسألوني عن مقدار دهشتي وسروري عندما فتحت الكيس ووجدت أغلب محتوياته كتباً ومراجع أساسية في القانون الدولي والتاريخ (وهما المادتان اللتان تخصصت فيهما) ووجدت أحد الكتب يحمل إهداء من المؤرخ الشهير أسد رستم إلى صديقه فارس بيك الخوري.
كانت الكتب جميعها من مكتبة المرحوم فارس الخوري ولا تسألوني كيف وصلت إلى أبي محيي الدين القضماني الذي أوصلها إلي!