تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


من مكتبة الفضاء... «امرأة بنقطة واحدة»... «هـي الزمـن المحفـور في سـطور.. بــلاد تُخنَـقُ أنفاسـها»

ثقافة
الثلاثاء 24-7-2018
هفاف ميهوب

«كانت لعبة ممتعة تتكرّر في الحديقة.. تبحث عن قلبٍ وحرف، ومفردة ذكية تجعل يومها سعيداً ولحظاتها مغمورة بالجمال، وأشجارها تحتفظ باسمها ورائحتها وأنوثتها، في حرفها ذي النقطة الوحيدة..».

إنه ما بحثتْ عنه «امرأة بنقطة واحدة». أنثى «الطبيعة العذراء» و«سيدة البياض» التوَّاقة لأن «نستمر في البقاء» رغم يقينها الذي همست به لعاشقها النبيل: «لم يبقَ وقت كثير للحياة يا عجوزي الجميل».‏

أيضاً، رغم السنوات التي وإن خطفتْ أصالة عشقها بـ «رومانسيات إلكترونية» إلا أنها لم تمنعها من أن «تتحرك في الزمن» ولحظاته الشاعرية. اللحظات التي ومثلما جعلتها تشعر «وكان الماضي اختفى» جعلتها تشعر أيضاً، بأنه حضرَ واحتفى..‏

فعلت ذلك، مع زوجها أستاذ الجماليات السبعيني المتقاعد، وفي الذكرى الخمسين لزواجهما. الذكرى التي قرَّرا الاحتفاء بها في حديقة البلاد الخاصة التي أعادا فيها: «أعادا الماضي بحثاً في الذكريات ورسائل الحبِّ وشيفرات الحروف، ووهج القلوب التي رسماها منذ خمسين سنة، بحثاً عن مدوِّنات العشق القديم»..‏

ربّما، ولأنه الزوج أدرك ذلك، اصطحب سيدة الزمن الطويل إلى حديقتهما التي رأى فيها: «الغابات واحات تشبه اللوحات والمنحوتات والقصائد والنساء الجميلات». اصطحبها، وهو يسامرها بطفولةِ الأفكار والأنفاس والحكايات، وبكلّ ماتنسّمه فحاكى به زمنه: «تأملي الحياة كم نضجت يازمن. كم أضافت إليك الطبيعة وكم غيّرت من روح الطفلة فيك. نحتاج الجمال لكي لانتشوه، والطبيعة لنكون أكبر من الحقيقة المجردة الهالكة التي نعيشها».‏

لاشكَّ أنها حكمة الكاتب ورؤيته.. رؤية الروائي العراقي «وارد بدر السالم» في زمنٍ جسده على شكلِ امرأة هي الحياة التي تمنّاها آمنة لا حروب فيها ولاحرائق ترمدها.. عذراء بثيابٍ تتجدّد بناصعِ بياضها.. حديقة وغابات وأزهار، تتقافز بينهم ذكريات الماضي باحثة عن أحرفِ العشق المحفورة في جذوع الأشجار، ودون أن تحرقها قذيفة حرب، أو تقتصُّ من قلبها ضربة فأس.‏

هي أيضاً فلسفته، أعارها لبطلي روايته.. لأستاذ النقد والجماليات، وزوجته. «زمن» التي كانت لديه أول وأجمل المنحوتات.. تلك التي جسَّد فيها أنوثة الحياة والزمن.. كان يومها في العشرين، وهاهو اليوم في السبعين. لكن: «تختمر السنوات في روحيهما وتنفتح حيّة في مكانٍ أثير، افترقا عنه سنوات طويلة وعادا إليه كطائرين سعيدين في انفتاح الصباح بالمطر، ليقول لها حكمة يرتجلها: «نستمرُ في البقاء، مادامت هناك ذاكرة لمكانٍ في البلاد، قبل أن يطمسوه».‏

من هنا، ومثلما كانت «امرأة بنقطة واحدة» هي مانحتهُ الكاتب بكلماتٍ خلّدت إبداعاته، كانت أيضاً منحوتة عاشقٍ خلّدها زمناً تروي حكاياته: «امرأة من فخار، نصفها الأعلى خارج من تنورٍ مستعر والآخر مختفٍ داخل حلقة معدنية دائرية، توحي بأنها رأس تنور. شعرها نصف محترق، ووجهها غير محدد الملامح. يُقرأ على أنه غاضب أو خائف أو منزعج. النار خارجة من نصفها الأعلى، وفي عينيها تحدٍّ وديمومة وبقاء».‏

حتماً، هو تأكيد على جمال الخلق المبدع. على استمرارية وخلود ذاكرة الحياة في زمنٍ، نعيش فيه والكاتب يقيناً بأن «كل الحروب قذرة لكن، في الفنِ جماليات لا تُحصى».‏

نقرأ فلسفته، فنجدها تتوالى على هيئة الزمن ورؤيته.. الرؤية التي استمدّها مما شاهده فأبعده، إلا عن كون الحرب ويلاً وبلاء وفناء، وأن الشهداء: «الشهداء أكبر من الأنبياء» و»زمن، هي منحوتة ونبوءة بطريقتها» و»الفن يلازم الحياة بخيرها وشرها ولا يتخلى عن هذا أو ذاك».‏

إذاً.. «الحياة ليست هي الحرب، بل كل ما ينشر الجمال واللون والنظام والسلام على الأرض» و»المنحوتة زمن.. هي الحرب المستمرة فينا ولايمكن إطفاؤها» وهي «الحب المتمكِّن والقادر على جعل نحّات الجمال، يعلنهُ بشجاعة».‏

هذا ماتتركه الحرب من انعكاسات، لدى كل من رأى نيران البلاد تستعر، فأشعل نيرانه التي كانت تَخلقُ لاتَخنق. تخلق حياة، جمال، طبيعة، أمومة وأنوثة «تواكب هذه الحياة المدفونة بين السطور لبلادٍ كانت تخنق أنفاسها».‏

بلادٌ، أحرقت الحرب روحها وزمنها وذكريات الأنامل التي أبدعتها. أنامل «سيد الطين والحرف» الذي ابتكر أنثاه زمناً، فامتنّت له أبداً: «روحكَ من طين البلاد لهذا أحببتُ أصابعكَ وهي تعيدُ تكويني، فصرتُ وردة ثم عطراً ثم غصناً ثم حديقة فغابة فأنثى».‏

بعد أن ابتُكرَ المبدعُ زمنه، واحترقت ذكريات أنامله، ترك الطين والفخار ونيران الأفران المتوهجة. ذلك أن نيران الحروب والأحقاد والبشاعات، جعلت الطين وسخاً، والنحاتُ يتركه معلناً: «حين تركت النحت واعياً، لجأتُ إلى الكتابة الجمالية لأكتب رسائل الأنبياء، فالفنانون ينحتون ويرسمون ولا يقولون غير هذا. إنهم بحاجة إلى إلهٍ يكتب نبوءاتهم ومعجزاتهم، ويدونها كآثارٍ باقية للأجيال التي تأتي بعد الحروب لترى الأثر والرسالة معاً».‏

لجأ إلى ذلك، فصارت أنامله كلمات من جمال، وسطوره أشجار عشقٍ أعادته إلى خمسين سنة ماضية، وجمَّدته أمام منطقٍ استشعر الحياة فيه زمناً هو: «أنا وأنت وهذه الحديقة العملاقة، وغاباتها الصغيرة التي لاتزال روائحنا فيها مثمرة»..‏

كل ذلك، مع الكثير من الذكريات، استدعاه عاشقين أسطوريين في حديقة العاصمة «بغداد»، ومع فيضٍ من العواطف البريئة والرائعة.‏

استحضراه وهما يشعران «كأن الماضي اختفى» وضاع حرف امرأة الزمن بعد خمسين عاماً من توالي الحروب وتراكم الغبار.. أيضاً، بعد قدوم الكثير من جنود الحرب وأبناء الحبّ الذين حفروا أحرف زمنهم على جذوع الأشجار. الأحرف، التي كان كلّ جديد منها يمسح ماقبله. تماماً كما التاريخ يمسح بجديده، مايضيع قديمه وأثره.‏

إنها إذاً، رواية تدعو الزمن للبحث عن المدونات الجمالية. رسالة تخاطبُ الأجيال: الحب والجمال أقوى من الحرب والبشاعات الإنسانية.‏

الرواية، التي تخلق أزماناً من الحب، ومدونات هي تاريخ علينا إزالة ماتراكم فيه من حرائق ودخان وغبار وشظايا حروب ومفارقات وذكريات..‏

بكل الأحوال، يبقى الإبداع هو النورُ الذي نبحثُ به عن الحب في الزمن.. عن الحرفِ العظيم لـ «امرأة بنقطة واحدة»..‏

يختتم «السالم» روايته، كأنما يختتم الزمن بغير المتوقع لنهايته.. يختتمها بـ «شمس الغروب الذهبية» التي سطعت على حرفِ الذاكرة البعيدة. فهل أنارته؟.. ربما، وربما أحرقتهُ مع مدونته..!!..‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية