وبين تبادل الأسرى مع الفصائل الفلسطينية.والخطوة التالية التي خطاها عمر سليمان كانت تعليق جهوده «لفترة وجيزة» كما قال، للوصول إلى مصالحة فلسطينية - فلسطينية، ثم أعلن استئنافها في 25/2/2009. لماذا أخذت الأمور هذا المنحى؟
للوهلة الأولى، يبدو الكيان الإرهابي الإسرائيلي وكأنه حقق مكسباً بضمان التغطية المعنوية في مواصلة الطلعات الجوية للعدوان على القطاع وتخومه المصرية، بما في ذلك قصف الجانب المصري من الحدود الدولية مع فلسطين، وهذا ينسجم مع انتفاء تهدئة لم تتحقق في الواقع، أياً تكن الأسباب، وفيها السبب الذي صنعه الإسرائيليون بأيديهم، بإقحام الإفراج عن شاليط في ملف التهدئة.
يتوكأ هذا الانسجام بصفة خاصة، على منظومة الذرائع التي اعتمدتها مصر السياسية لـ«تفسير» العدوان الإسرائيلي على غزة طيلة 22 يوماً، وفي مقدمة هذه الذرائع أن حماس لم تمدد، من جانب واحد، أجل التهدئة التي كانت بين 19/6 و 19/12/2008.
بيد أننا في تدقيق هذا «المكسب» الإسرائيلي، نلحظ أن «إسرائيل» عادت إلى الدوران في الحلقة المفرغة نفسها التي يشكل أسر الجندي شاليط، منذ عملية «الوهم المتبدد» في 25/6/2006، عنوانها الموصول بتدهور قدرة العدو الإسرائيلي على الإمساك بزمام المبادرة في إدارة الصراع.
تتكون هذه الحلقة المفرغة من عجز الكيان الإرهابي الإسرائيلي عن استعادة جنديه الأسير لدى المقاومة طيلة نحو ثلاث السنوات المنصرمة على وقوعه في الأسر، والتي تبدد خلالها الوهم بقدرة أجهزته الأمنية، الذائعة الصيت بالدهاء والمكر، والمشفوعة بالتعاون النشط مع الأجهزة الأمنية لسلطة المنتفعين باتفاق أوسلو، و«جيش» من خونة أهلهم ووطنهم.
ومن البديهي أن لهذا العجز الأمني الإسرائيلي، صلة وثقى بهيبة الردع لدى الكيان الاستعماري الصهيوني برمته، التي شرختها عملية «الوهم المتبدد»، ثم شقيقتها عملية «الوعد الصادق» في 12/7/2006 التي أسر فيها حزب الله جنديين وإن مقتولين بعد قتل ثمانية آخرين، وتدمير بضع آليات عسكرية وسط ثكنة شمال فلسطين المغتصبة 1948.
ومنذئذ لم تستعد «إسرائيل» هيبة الردع هذه، حتى بعد عدوان الـ33 يوماً على لبنان، وبعد عدوان الـ 22 يوماً على غزة، ولم تستطع ترميمها بتأثير الوحشية المقترفة في العدوانين، زد على ذلك أن الدينامو المحرك في تبديد هيبة الردع، إنما يثير قلق المستويين العسكري والسياسي بدفع من العجز المستديم عن اكتشاف مكان الجندي شاليط.
فهل استعادت «إسرائيل» زمام المبادرة سياسياً بإحباط المساعي المصرية، المبذولة على المستوى الأمني، وليس السياسي، لبلوغ تهدئة جديدة في قطاع غزة؟
بالنظر إلى متلازمة الإقدام والاحجام في إدارة الصراع العربي - الصهيوني، ولاسيما في حلقته الفلسطينية، يمكن الجزم بأن «إسرائيل» أفلتت، وهي ستحاول الإفلات، من بلوغ تهدئة مع المقاومة الفلسطينية تستحضر الدرجة المعنوية التي ارتقاها حزب الله في لبنان في 1996، بتبلور «تفاهم نيسان» القاضي بكف طرفي القتال: «إسرائيل» والمقاومة اللبنانية، عن توجيه الضربات للمدنيين، داخل لبنان وفلسطين المحتلة.
و«إسرائيل» في الوضع الحاضر لا تريد للمقاومة الفلسطينية أن ترتقي في 2009، درجة مماثلة لتلك التي ارتقاها حزب الله في 1996، والتي أفسحت أمامه المجال لتسديد ضربات موجعة لجسد قوة الاحتلال العسكري للإراضي اللبنانية، وهي الضربات التي تراكمت عسكرياً حتى حققت القفزة السياسية الإسرائيلية في إرادة صناع القرار، القفزة التي سقطت معها الجدوى في ديمومة احتلال ما كان يعرف بـ«الشريط الأمني» في جنوب لبنان فكان الاندحار العسكري في 24/5/2000، تحصيل حاصل للاندحار السياسي.
لكن العدو الإسرائيلي، واتعاظاً منه بسيناريو ما بعد تفاهم نيسان 1996، لا يريد تهدئة في غزة، يتكرر معها السيناريو نفسه كما في جنوب لبنان، ولاسيما أن المعطى الموضوعي المضاف إلى رصيد المقاومة في غزة وهو الانكفاء الإسرائيلي الأحادي الجانب من القطاع في 2005، إنما يمهد أمام شعب فلسطين الطريق نحو تكرار المأثرة اللبنانية.
و«إسرائيل» لا تعدم رهاناً للقطع مع تكرار السيناريو اللبناني في غزة، انطلاقاً من متلازمة الاقدام والاحجام في إدارة الصراع مع العرب، وخاصة مع الجانب الفلسطيني.
معقد رهان «إسرائيل» في هذا الطور الذي يحمل عنوان «شاليط أولاً» هو استنهاض غضبة «المعتدلين» العرب، وفي الطليعة سلطة عباس في رام الله، على حركة حماس التي لا تستجيب للتهدئة ولا تزيل عائق شاليط من طريقها.
من أجل «غاية نبيلة وهي حقن الدم الفلسطيني»، المهدد بالسفك مجدداً، لأنه ليس ثمة تهدئة.
والسابقة التي تبني «إسرائيل» عليها رهاناً كهذا، هي أن المعتدلين العرب قد أنحو باللائمة على المقاومة الفلسطينية، و«صواريخها السخيفة»، في التسبب بعدوان «إسرائيل» المكثف طيلة 22 يوماً، بكل ما اقترف فيه من وحشية.
أي إنهم أحجموا حين أقدمت «إسرائيل» ولذلك فإن المجلس الأمني الإسرائيلي الذي انعقد في 18/2/2009، برئاسة أولمرت، وضم وزراء الخارجية والحرب والداخلية، ورئيس الأركان وقادة الأجهزة الأمنية، انما طمع في انتعاش الضغوط على المقاومة الفلسطينية لتجريدها من معطى القوة المتوضع في يدها، وهو معطى شاليط كي تستعيد «إسرائيل» بكليتها السياسية والعسكرية زمام المبادرة، ومعها هيبة الردع المشروخة أصلاً تحت عنوان شاليط، والتي تتآكل تباعاً بصمود غزة المقاوم لعدوان الـ22 يوماً، وبالصميم في أنين الثكالى على القصاص من القتلة، وليس على رفع الراية البيضاء.
وما يعزز فرصة صناع القرار الإسرائيلي في رهان على احجام فلسطيني مطموع فيه من خلال الضغوط على حماس، أن مصر الرسمية ليست طرفاً في الحوار من أجل التهدئة، بل إن حصر الحوار بالمستوى الأمني، يمثله اللواء سليمان، يعطي «إسرائيل» ميزة ايجابية، هي المتكونة من الفجوة بين المستوى الأمني المستوى الرسمي المصري، الفجوة المؤهلة لاتقاء ضغط القاهرة على تل أبيب وتحويله ضد المقاومة الفلسطينية.
أضف إلى ذلك أن «السفراء الإسرائيليين» في الخطوط الخلفية للعرب، أي المتأسرلين في الإعلام العربي، يقومون بتفعيل واحدة من علائم تأسر لهم، وهي التطاول على كل ما هو ايجابي ونبيل في حياة العرب السياسية بنشاط لافت.
فلقد شاعت في الإعلام المتأسرل مفردات الخطاب الإسرائيلي، مثل «التهريب» لتوصيف نقل الغذاء والدواء بكل السبل المتاحة إلى أهل القطاع المحاصر، بما في ذلك سبيل حفر الانفاق، التي يقصفها الإسرائيليون لإحكام الحصار.
واللافت في اشتغال المتأسرلين العرب على هذا الخط، أنهم يستبعدون خيار المقاومة من أي مصالحة فلسطينية يمكن أن تسفر عنها حوارات الفصائل في القاهرة.
ومؤدى الأبلسة في هذا الاستبعاد دفع الماء إلى طاحونة العدو بإكساء هدفه المعلن، بلسان ليفني في القاهرة 25/12/2008، وهو إنهاء حكم حماس في القطاع، كقوة فلسطينية تستولد عودة المتعاونين مع العدو إلى سابق نشاطهم في غزة تحت لافتة «الوحدة الوطنية». أي تمكين «إسرائيل» بالسياسة ما عز عليها تحقيقه بالعدوان.
وما يجب استخلاصه من صراع الإرادات على هذا النحو بين «إسرائيل» وحماس، أن الحنكة في إدارة الصراع تعطي صاحبها قيمة مضافة إلى رصيده، يعزز بها قدرته على الإقدام، ويرغم الطرف النقيض على الاحجام وفق الجدلية التي تميز بها تاريخ الصراع العربي - الصهيوني، وهي متلازمة الإقدام والاحجام.
وما يسترعي الانتباه في هذا التاريخ، أن العدو الإسرائيلي استمرأ الاحجام لدى أطراف عربية، ليس وحسب في ميدان القتال، بل على طاولة المفاوضات، فحقق مكاسب لم تكن تخطر في بال، باستثناء تجربة هذا العدو مع المدرسة السورية، ابتداء من إصابة دهاء كيسنجر بعد 1973 بالاخفاق وحتى يومنا الحاضر، ومروراً بعملية التفاوض المنبثقة عن مؤتمر مدريد 1991.
الأصل في هذه المدرسة السورية هو الاعتصام بالثوابت الوطنية والقومية.
وعلى سبيل المثال فإن الاصرار السوري على أن هدف أي مفاوضات مع العدو هو الانسحاب إلى خطوط الرابع من حزيران 1967، المحددة بالمتر وحتى الشبر، قد تحول إلى قوة إلهام لدى المقاومة في لبنان وفلسطين، تهافتت معها صنوف الدهاء الإسرائيلي لحصد قيمة مضافة من الاحجام العربي.
وهذه المدرسة ليست ملهمة وحسب بل هي إلى ذلك كلية الصواب وواعدة، لأن جدواها ممتحنة في هذا الصراع الطويل الأمد.
SIWAN@SCS-NET.ORG