تعرّض حورانية للاعتقال أكثر من مرّة ، نتيجة لمواقفه الفكرية والسياسية. أقام فترة طويلة في موسكو ، من مطلع الستينيات حتى عام 1974 ، ثم عاد إلى الوطن ، واشتغل في وزارة الثقافة حتى عام 1994 .
كتب سعيد حورانية : القصة القصيرة والمقالة والمسرحية ، وعمل في الترجمة. وطبعت وزارة الثقافة أعماله القصصية كاملة عام 1995 .
حين اطل سعيد حورانية على المشهد القصصي السورية في الخمسينيات، كان ذلك المشهد لا يزال في طور التشكل الأولي ينتظر المزيد من التجارب التي تكرسه، فكان حورانية أحد الذين صنعوا تلك البصمة المنتظرة عبر قصصه التي تعمّقت أكثر مع صدور مجموعاته .
ينتمي سعيد حورانية إلى جيل المؤسسين في حركة الأدب السوري ، فقد شهد عقد الخمسينيات الإعلان عن بدء تكريس الكثير من التجارب التي بقيت فاعلة عشرات السنوات : حنا مينه وعبد السلام العجيلي وشوقي بغدادي وزكريا تامر ونزار قباني وأدونيس .
كان القاص مسلحاً بالكثير من الوعي النظري والقراءات التي يحسن وضعها جانباً حين يشرع بكتابة نصّه القصصي ، ومنذ بداية كتابته نجد أنه كان نصيراً للنصّ النافر ، وبدا أنه ما من شيء مختلف في الحياة إلا يولد نصاً حاراً في مختبر حورانية الإبداعي ، فنبش بيئات مقصيّة ومهمشة في محطات بعيدة أعادها إلى الواجهة بأسلوب حكائي فني معبّر .
في مجموعته الأولى : « وفي الناس المسرة » ينزع حورانية إلى الانشغال بالهموم الأسرية ضمن صياغة كتابية تبحر إلى حدّ وافر في مضارب السيرة الذاتية وعوالم النفس البشرية وبعدها اللاشعوري ، وتنجذب بين طور وآخر إلى التوثيق والتسجيل ، انسجاماً مع فهم للقصة ، يرى أن التوثيق أحد مطامحها. وتثير المجموعة عدداً من القضايا الفنية على مستوى اللغة وصراع الفصحى والعامية، وتبرز مشكلة الاستطراد اللغوي الذي حلّ ببعض قصصه وأحاط بعوالمها الأساسية، وعلى الرغم من ذلك فقد حاول حورانية اجتراح أساليب سردية عديدة ، متبعاً أسلوب الرسائل والبناء المقطعي .
وفي المرحلة الثانية التي تمثلها المجموعتان : « شتاء قاس آخر » 1962، و «سنتان وتحترق الغابة » 1964 ، نجد هموماً متنوعة مختلفة ، ونضجاً فنياً في معالجة الموضوعات ، إذ نجد أن القاص حورانية قد سلك مسلك الواقعية النقدية المشبعة بالسخرية ، والقدرة على القبض على نبض الحدث ، والإحساس به ، بفضل قدراته على نقل همومه وهو في لحظته المكثفة ، تاركاً للسرد أن يأخذ مداه في زرع أفكاره .
وطرق حورانية أبواب موضوعات أخرى لم تصلها أيدي القصة من قبل كالاعتماد على الترميز ، يريد أن يقصي الدلالة المباشرة ليحمّل الكلمات دلالات خفية عبر حكاية يحضر فيها التجريد بدرجة أو أخرى ، لكن هذه النقلة النوعية الفنية التي حدثت في تجربته السردية لم تجعل قصصه جميعها تبرأ من هواجسه الذاتية وبراثن المعالجة الرومانسية .
ما انفك حورانية يجعل سيرته الذاتية وتجربته الحياتية منبعاً رئيسياً من منابع نصّه القصصي ، دون أن يعني ذلك أنه وقع في حبائل التوثيق ، بل توقف عند الآخر في سيرته فما شاهد أو عايش، أو نقل روح التفاصيل مما يخصّ الأنساق الاجتماعية التي نمت تجربته في كنفها ، ويمكن أن نتتبع عدداً من نصوصه بالتوازي مع مراحل عمره ، لنجد أنها خير شاهد عليه ( العلاقة مع الأسرة ، والطرد من البيت، سجنه ، وظيفته ، عمله في السويداء ، ونقله إلى الحسكة، خدمته العسكرية ، عودته إلى دمشق ) . إذ استطاع أن ينفذ إلى حياة الناس وبيئاتهم بالرغم من تكونه في بيئة بعيدة عنهم ، لكنّه وصل إلى ما يشغلهم ويعذبهم، إضافة إلى الغنى الوجداني والنفسي والاجتماعي لتكون مدخلاً إلى معاناته التي عاشها في بعض الأحيان .
لم يبق حورانية تقنياته القصصية على ما هي عليه ، بل طوّرها نحو التنوع، فاستعمل الوثيقة ، والبناء المقطعي ، وحرص على الافتتاحية الصادقة ، وعلى مستوى اللغة ازداد إبحاراً في كتابة حوار القصة بالعامية ، وكتب نصوصاً عدّة ترتكز بصورة كبيرة على العامية.
انشغل حورانية بالغوص في أعماق شخوصه ، بدلاً من الاهتمام بمظهرها الخارجي ، وأحضر من أوصافها النفسية ما يكفي لإقناع المتلقي بها ، بحيث لا تبدو نافرة عن سياقاتها في محاولة للتعرّف على حجم معاناتها ، ورصد حالة الاغتراب الذي تعيشه في صراعها مع مجتمعها ، فقد انكفأت نحو عوالمها الداخلية لتحدث عملية مكاشفة مع الذات ، ممزوجة بشيء من البوح ، وقد تمكن حورانية من إيصال اغتراب تلك الشخصيات بالحرارة ذاتها إلى المتلقي .
تمكن حورانية من إنجاز شخصيات ، كانت أحد الأسباب الرئيسية في تكريس قصصه، إذ نجح في أسطرة شخصيات واقعية مرت معه ( حمد ذياب ، ومنصور ميداني ... الخ ) وقد منح من سيرته عمله الكثير من شخوصه ، وهو في أسطرته لتلك الشخصيات الشعبية كشف عن الأطوار المتعددة التي تمرّ بها الشخصية الإنسانية ، وهي ليست شخصيات متعالية على الحدث ، إنها تأخذ وتعطي ، وتسعى لأن تكون متميزة بعملها ، محاولة التغلب على الوعي الاجتماعي السائد المحيط بها عبر رؤيتها الفكرية الخاصة التي تمكنها من القيام بما هو نافر ، لكنها ليست عابرة للظروف بل ابنة واقعها.
لقد تمكن القاص من الكتابة بلغة قادرة على نقل نبض الحدث الذي أراد أن يكشف عن مرونة استثنائية على مستوى التركيب واختيار المفردة والمفردات الناضجة بالحرارة ... وممّا يسجل لـه أنه كان عارفاً باللغة المترهلة من اللغة الناقلة للحدث ، وقصصه على الرغم من طولها ، إلا أنها لا تنقل لنا الفائض عن حاجة السرد ، بل تبقى منشغلة بعالمها الفني الذي يدغدغ الكثير من مساحات التكوّن ، وجعل نصوصه القصصية حمّالة لنكهة المكان المحلي بعاداته وتقاليده ، ولم يهرب من اشتراطاته ، ولم يتعامل مع الأمكنة، تعامل الغريب بل استجاب لها ، واستطاع أن يجعل أحلك الأمكنة وأوعرها رمزاً للحميمية والألفة والدفء . وتأتي خواتيم قصصه مندمجة مع أحداثه ، هارباً من مفهوم الحلّ الذي يأتي في النهاية ، ولا يبني نصّه هرمياً بل تراكمياً ، ممّا أعطى انطباعاً أن عدداً من نصوصه يكاد يشكل من يشبه المتوالية القصصية .
قال عنه حنّا مينه : « سعيد حورانية في صمته أبلغ منّا في كلامنا ، نظراته المعبّرة من خلال الصمت ، تحكم على بؤس الحياة حكماً قاسياً وعادلاً ، حكماً لم نستطعه نحن ، بهذه البلاغة » .
وقال عنه سعدي يوسف : « أكيد أنّ أدوات سعيد حورانية كانت ستتطور أكثر لو أتاحت له الحياة قدراً من الاستقرار والتفرغ » .
أمّا ممدوح عزّام فقد قال : « لم يستطع أحد أن يزعزع مكانة سعيد حورانية كمجرّب وصانع وماهر وشاهد على العصر ، وحداثي وفنان في هذا المضمار » .
فيصل خرتش
سعيد حورانية “ خبز الواقعية المرّ “ - د. أحمد جاسم الحسين - سلسلة أعلام الأدب السوري - منشورات الأمانة العامّة – دمشق 2012 - عدد الصفحات : 112 صفحة ؛ القطع : 21 × 14.5