ليست مجرد لهو لعدد كبير من الذين يقتحمون هذا الفضاء الجميل. على تلك الكتابة أن تكون - بلا أدنى مجاملة - هوى المعرفة، ذلك الذي يعتبره هوسرل جوهر الروحانية الأوروبية، والذي يحمي الإنسان من (نسيان الكائن)، حسب تعبير هايدغر.
ويظن كثير من اللاهين أن لاأخلاقية الرواية - في التعبير الكونديري - تعني مناهضة الأخلاق أو تناقضها، فيما اللاأخلاقية عنده، تعني فقط عدم إخلاص الروائي للأزمنة الحديثة، وفق هوى معرفي عالٍ، هدفه الكشف الفريد.
ابتدأت الرواية مع رحيل دون كيخوته التعسفي من بيته، حين لم يعد العالم يعنيه شيئاً: لقد فقد إيمانه في كل شيء، وهام على وجهه، مغلقاً الباب أمام الآمال التي تطرحها قوى أوروبا المغرمة بالقتل والاستيلاء على الآخر، وكأنه يعلن عصيانه في عالم تركه خالقه لقدره. هذه (الأوروبا) سيواجهها كافكا فيما بعد بكثير من اللاعقلانية، رداً على طغيان العقل وإرادة السيطرة والعسف؛ لاعقلانية رافضة للقيم الأخلاقية السائدة، ولكل أوهام العالم الحديث.
أعاد سرفانتس كينونة الإنسان إلى الواجهة، في حين لم تنتبه الفلسفة والعلوم إلى القيمة الحقيقية للكائن المفكر. ولهذا - وكما يرى كونديرا - يكون المؤسس الحقيقي للأزمنة الحديثة هو سرفانتس وليس ديكارت.
أليست هذه مغامرة أخلاقية عظيمة؟
أكد هوسرل أن الأزمة الأوروبية، ربما تدفع هذه القارة المتوحشة إلى الفناء والزوال، بسبب تلك العلوم التي قلصت العالم إلى مجرد موضوع للاستكشاف التقني والرياضي، وأقصت وجود الإنسان والعالم العياني للحياة. انسحق العلم الرياضي والتقني في تفاصيل العمل التخصصي، وبقي الوجود الإنساني في مهب الريح، وكان من الضروري عندها والواجب أن يظهر جنس أدبي - أدبي بالتحديد - ليحمل عبء إعادة القيمة الحقيقية للإنسان، بعد أن همش واضطهد وأقصي عن الفعل.
تابع الروائي مغامرته الأخلاقية الكبرى بعد سرفانتس، وشرعت الرواية في نسج تاريخ للأخلاق، عنوانه (الإنسان)، فعمل بلزاك على التاريخ وموقع الإنسان المركزي فيه، واقتحم فلوبير أرضاً مجهولة هي الحياة اليومية، فيما عوّل تولستوي على اللاعقلانية في قرارات الإنسان وسلوكه اليومي، وهمش بروست قدرة الإنسان في القبض على الزمن الماضي، عكس جويس اليائس من القبض على اللحظة الحاضرة.
إن حكمة اللايقين، هي أخلاقية الرواية منذ بدايتها الدونكيخوتية، وهي معادية بشكل سافر لعدوانية القوة الأوروبية، تلك القوة التي ستقضي على إنسانية الإنسان. أليست هذه أخلاقية أيضاً؟
رغم كل القفزات العملاقة في فن الرواية، ومع خروج هذا الفن من التصنيفات المرهقة والمؤذية، لا نزال نسمع - عربياً - ما يناقض هدف هذا الفن: تلك رواية لاأخلاقية، وتلك مغرقة في الفلسفة، وثالثة فاسقة هي وكاتبها/ كاتبتها، ورابعة ملحدة...إلخ. وهكذا فقد حرمت الرواية العربية نفسها من تحقيق الهدف الأسمى للرواية: أن تكون تاريخاً للإنسان. وهنا تموت الرواية، تموت على طريقة كونديرا: (ليس موت الرواية فكرة وهمية. فقد تم حدوثه. ونحن نعلم اليوم كيف تموت الرواية: إنها لا تختفي؛ وإنما تقع خارج تاريخها. يحدث موتها إذاً بهدوء، دون أن يراه أحد، ودون أن يثير استغراب أي إنسان).
لم تبدأ روايتنا - بشكلها الفعلي والفاعل - لتموت، لأن الرواية التي لا تكتب تاريخ إنسانها، هي رواية ميتة سلفاً. وأحد الحلول للخروج من مأزق الرواية العربية، هو أن تبتعد عن التصنيف السلطوي والتقريع الأبوي والإدانة الحمقاء. ولكن ذلك، وبعد تفكير قصير، لا يحل المشكلة؛ فالغرق في نسق واحد من التفكير ومن هواجس المنع، والانسجام الفكري إلى حد التطابق، يؤكد أن الروائيين عديمو الأهمية، وأن أرواحهم مضادة لروح الرواية.
الرواية مضادة لعصرها على الدوام، وهي عمل أخلاقي بالمطلق. أما اللاأخلاقي، فهي أن تعيش الرواية متوافقة مع عصرها، ومسالمة ومهادنة. والذين يكتبون هذا الشكل ويطلقون عليه رواية، ليسوا سوى مجموعة من المخربشين - حسب تعريف كونديرا - لا يفهمون من العالم إلا أنه يتقدم، فيما الدونكيخوتيون، يغذون السير بحماس ضد تقدم العالم، لأنه يهمش الإنسان وينسى الكائن.
إن الرواية التي لا تكتشف جزءاً من الوجود، حسب كونديرا، هي رواية لاأخلاقية. ولا تكون الرواية مجموعة اعترافات الكاتب، وإنما سبر للحياة الإنسانية، وتجاوز لكل القيم المألوفة، ومحاولة للخروج من الفخ الذي استحاله العالم. وهكذا، تكون الروايات المهذبة والمشفرة والمسالمة، كتابات لا تقدم للوجود الإنساني شيئاً، ولا حتى على صعيد المتعة.
على الرواية، إذاً، أن تحطم الهدوء والدلال وتمزق ربطة العنق البرجوازية. وكما يقول هرمان بروخ: (إن السبب الوحيد لوجود الرواية هو أن تقول شيئاً لا يمكن أن تقوله سوى الرواية). وهي بهذا، تنحو بالإنسان إلى دخول مناطق جديدة، غير مأهولة سابقاً، تنبش في أرض الوجود عن وجود نوعي يليق بالكائن المسمى (الإنسان).
إن كل ما يرفع من شأن الإنسان، هو شيء أخلاقي، وكل ما يهمشه ولا يعيره انتباهاً، هو شيء لاأخلاقي بالضرورة. والفن الروائي الذي لا يعير انتباهاً إلا للكتابة المهادنة باعتبارها أخلاقاً، يعلن سلفاً أن الرواية تموت هنا: في المكان الذي أهملت فيه تاريخها، ومات معها كاتبها دون أن يدري.