تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الانتخابات الألمانية..دليل علة الاتحاد الأوروبي وأزمة نخبه الحاكمة

دراسات
الأحد 2/10/2005م
ميخائيل عوض

تطورات تثبت كأحداث تاريخية مؤسسة, وقائع مادية دالة, تشير إلى مشكلة بنيوية بدأت تضرب جسد الاتحاد الأوروبي, وتحوله من قوة صاعدة متفاعلة هجومياً مع التطورات العالمية إلى قوة منفعلة مرتبكة, عاجزة عن شق طريق خاص قادر على قطر التحولات الدولية والتأثير بها.

تسارعت الوحدة الأوروبية, وتوسع الاتحاد, وتماسكت عناصره الأساسية, وأطلقت العملة الموحدة, والفيزا, والأمن الأوروبي, وبدأت عملية إعداد قوة أوروبية مستقلة عن الأطلسي كمؤشرات على أن أوروبا تشق خيارها الخاص وتبني قوتها وسياساتها المستقلة عن التبعية لواشنطن, ووجدت النخب الحاكمة صدى في الشارع لم تحلم به من قبل (سرعان ما انهار لأنها عجزت عن فهم دوافعه وأسبابه الموضوعية) فما حققه الاتحاد بسرعة قياسية حصل بسبب تفاعل النخب الحاكمة مع الأمم الأوروبية المتمردة على النموذج الأميركي الليبرالي, والرافضة للاستيلاء على العراق وآسيا الوسطى لفرض العصر الأميركي.‏

شكلت مسألة العراق وفلسطين والحرب على الإرهاب وحرب الحضارات عناصر الفرقة بين المشروع الأميركي والمشروع الأوروبي, وتحولت إلى قضايا تعارض وصراع , شكلت سبباً دافعاً لوحدة أوروبا ولتفاعل النخب الحاكمة مع الشارع الأوروبي الذي تحول من أمم امبراطورية إلى أمم مسالمة تنشد الديمقراطية والتعايش والمصالح الاقتصادية والتصالح التاريخي بديلاً عن التشنجات القومية والخلافات على الحدود والمصالح الضيقة.‏

فقدت النخب الحاكمة صلة الوصل مع شارعها, وفقدت بوصلتها وتجاهلت الموضوع الذي يمكن أن تتحد عليه عندما سارعت النخبة الفرنسية الحاكمة في الاليزيه لتسوية الأمور مع واشنطن بحثاً عن مصالح مشتركة والسعي لإملاء الفراغ في منطقة الشرق الأوسط, فكان التوافق الشيراكي-البوشي على لبنان وسورية وفلسطين والعراق وإيران, فروسيا ومناطق نفوذها وتالياً الصين.‏

أظهرت النخب الفرنسية الحاكمة, بالتوافق مع الألمانية وعموم الأوروبية المنضوية تحت لواء الاتحاد ميولاً امبراطورية عدوانية عبر توافقها مع الإدارة الأميركية وكشفت عن نزوع استعماري حالم بالعودة إلى عهود الانتداب, غير مدركة أنه جرت مياه كثيرة في نهر مفاهيم الأمم وثقافاتها ومصالحها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والتغييرات البنيوية التي أعقبت ذلك وتضرر قطاعات اجتماعية وسياسية واقتصادية وإنتاجية واسعة في أوروبا والعالم بسبب العولمة المتأمركة التي رفضتها الشعوب الأوربية وانتظمت بمبادرة منها جهود مقاومة عالمية انتشرت في مختلف بلدان العالم حتى غدت قوة شارعية ذات أثر.‏

الانعطافة التي قادها قصر الاليزية وشاغله أثرت عميقاً فأفقدت مشروع الاتحاد الأوروبي موضوعه وقوة دفعه, وعناصره, فليس من اتحاد ممكن إذا كان متساوقاً مع المشروع الأميركي الساعي إلى التفتيت لتأمين السيطرة على المجموعات الصغيرة, وليس من اتحاد أوروبي ممكن على نمط الليبرالية الاقتصادية والسياسية الأميركية لأنها مخالفة لقيم المجتمعات والأمم وثقافاتها ومصالحها وظروفها الموضوعية وحاجاتها, الأمر الذي عبر عن نفسه في إسقاط الشعب الفرنسي للدستور الأوروبي وأعطب الجهود لتسويقه وفرضه على الأمم الأوروبية, ثم جاءت الانتخابات الألمانية خير دليل على تلك الحقائق ومفاعيلها, فالمستشار الألماني غيرهارد شرويدر وحزبه وتحالفاته حصد نتائج مرموقة عشية الحرب على العراق بسبب الموقف الرافض للغزو الأميركي وبسبب الاشتباك الإعلامي والقيمي الذي جرى على أرضية هذا الموقف بين الإدارة الأميركية والإدارة الألمانية, وعندما ارتخت المواقف الألمانية عن نقد السياسات الأميركية وقبلت الإدارة الألمانية أفعال شريكتها الفرنسية في التحالف مع الإدارة الأميركية على إدارة الشرق الأوسط عاقبها المجتمع الألماني أن صوت لغير مصلحة حزب المستشار, ما أدى إلى تقديم موعد الانتخابات العامة وما أنتجته من أزمة حكم من شأنها أن تقعد ألمانيا عن لعب دور دينامي في دفع الاتحاد الأوروبي.‏

هكذا تبدو الإدارتان الأكثر دينامية وقدرة في الاتحاد الأوروبي معلولتين, ففرنسا منشغلة بأزمة حكم على أثر نتائج الاستفتاء والأزمة الصحية التي ألمت بشيراك, وبسبب السياسات الارتجالية التي أفقدت الإدارة الفرنسية استقلاليتها النسبية المعهودة عن السياسات الأميركية, وبافتقاد الإدارة الفرنسية والألمانية للمبادرة وانشغالها بأزماتها وبالمشكل الداخلي حيث التذرر والارتخاء وغياب القوى السياسية والاجتماعية الصاعدة القادرة على تأمين استقرار سياسي وبالتالي امتلاك مبادرة, يبدو الاتحاد الأوروبي ذاهباً إلى حالة من الشلل والارتباك والانكشاف على أزمات بنيوية أساسها التعارض بين مصالح النخب الحاكمة الحالمة بدور امبراطوري ومصالح الأمم الساعية إلى التفاعل والتعاون على أساس المشتركات ورفض الهيمنة الأميركية الأحادية.‏

في الجهة الثانية تبدو بريطانيا الملتحقة أصلاً بالمشروع الأميركي (مسمار جحا في البناء الأوروبي) عاجزة عن قيادة الاتحاد إلى مواقف وأدوار منفصلة عن الحاجات الأميركية المباشرة ناهيك عن كون إيطاليا واسبانيا برغم أنهما الأكثر تماسكاً وحياداً إلا أنهما الأقل فعلاً ومبادرة.‏

أضف إلى المشكل البنيوي المعبر عنه في المأزق والأزمات الداخلية والعجز عن المبادرات في السياسات الدولية, ما تكشف من أخطاء وارتباكات في الإدارة الأوروبية لملف إيران النووي عندما تحولت الترويكا الأوروبية من محاور مستقل إلى شريك للتحالف الأميركي-الإسرائيلي في الضغط على إيران لتجريدها من حقها بامتلاك تكنولوجيا نووية سلمية, ما دفع بالأخيرة إلى فتح مشكل مع الترويكا الأوروبية لكشف سياساتها والتحاقها بالمشروع الأميركي كأداة وليست كطرف مستقل يملك خيارات أخرى, الأمر ذاته بما يعني العلاقات الروسية-الأوروبية, والروسية-الأميركية, والصينية-الأوروبية, والصينية-الأميركية.‏

يتأكد ذلك من خلال طرح إيران لمشروع مفاوضات سداسية بإدخال كل من الصين وروسيا والهند طرفاً في التفاوض بدلاً من التفاوض مع الترويكا الأوروبية.‏

مقتل الاتحاد الأوروبي, وفشله في لعب دور ريادي مبادر عالمياً بات يتأكد ويتجسد حصراً في انكشاف الطبيعة الاستعمارية الحالمة بدور امبراطوري للنخب الحاكمة المتعارضة مع مصالح وقيم الأمم الأوروبية, والمتصادمة مع القوى الدولية والإقليمية التي كانت تراهن على دور أوروبي مستقل عن المشروع الامبراطوري الأميركي والتي باتت تدرك أن النخب الأوروبية ألحقت الاتحاد بالسياسات الأميركية ما يفرض عليها وقف الرهان على أوروبا, والتحول إلى رهانات تعبر عن نفسها بتعاون أوثق بين روسيا والصين والهند وإيران ودول عدم الانحياز في إشارة إلى حتمية تصاعد الصراع بين شمال وجنوب, فدول عدم الانحياز التي باتت نشطة وصاحبة موقف في الملف الإيراني على توافق مع الصين وروسيا والهند تقدم دليلاً إضافياً على حالة التمرد التي يعيشها العالم في مواجهة الهيمنة الأحادية الأميركية وفي وجه محاولات إقامة هيمنة ثنائية أوروبية-أميركية.‏

أفقدت النخب الحاكمة في أوروبا وعلى رأسها الفرنسية-الألمانية الاتحاد الأوروبي تميزه واندفاعته, ما يؤثر في تماسكه وفي الانسجام بين النخب الحاكمة والأمم المتمردة على الأحلام الامبراطورية, والمتصادمة مع الجهود الأميركية لعولمة العالم وإلحاقه بالسياسات والمصالح القومية الأميركية.‏

كسبت أميركا وإسرائيل النخب الحاكمة في أوروبا فيما كسبت القوى الأخرى الأمم والشعوب الأوروبية فارتبك الاتحاد وبات معلولاً, وبدأت تتفجر أزماته التكوينية.‏

إنها متغيرات متسارعة في الساحة الدولية, لابد من رصدها, ومتابعتها عن كثب, فالعالم بات وحدة سياسية واقتصادية أي تطور في مكان ينعكس على الأمكنة والأزمات الأخرى, والعرب أكثر من يحتاج إلى المتابعة ومعرفة هذه التحولات للبناء على مقتضيات الأشياء, لأنهم موضوع الخلافات والتوافقات الدولية, وهم بيت قصيد التحالف الأميركي-الأوروبي المستجد والمأزوم.‏

كاتب لبناني‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية