لتسرق قطعاً من قلبي ومن كبدي، لا يوجد في الطب ما يرممها، ينساب الشريط بكل تفاصيله، والذكريات تمزق الروح.
حين زلزلت الأرض ونزفت شمس الغياب نجيعها، حزناً وحرماناً، سافر الفرح معهما، ويوم اللقاء لا يعلمه إلا الخالق، طفولة وشباب كأزرار الورد، نجمتان من ياسمين، وفيروز تصدح مع كل صباح، في ذاك اليوم غابت ومضت فوقه السنون.
أصبحت أيامهما حكايا، بهما كانت البداية، زرعنا الشاهدتين للشهيدين، غابا عطاشى وتوالت بعدهما عمليات الشر تتغول وتغتال. والزغاريد التي تزف عرائس وعرسان الوطن تصدح في أرجائه، والأمهات الثكالى يأخذ قلوبهن الموج إلى دروب الصبر.
المشروع المسموم لأجل فَلِّ التكوين الأصيل ينسل بين أوردة الوطن وشرايينه، يقتل العصافير والأحلام، تتصدى له القوة الكامنة للانبعاث من تحت الرماد سعياً للأسمى حيث يُكتب النصر على ضفاف الحياة، نحن من يفتح للشمس الأفق لتنشر الكرامة.
كانت الصدمة الأولى تُعاظِمُ الألم والحزن. أُمِيَّةَ المعرفة عمِيَّةَ الرؤيا، بلا هوية ولا إيقاع، هول المصيبة الفاجعة غيَّب الرشد، واغتال الصمت المحموم، خطف معالم الحياة من عيون الغائبين. نَخَّتِ الخيول واحتبس الجمال عن ناظريه، دمعت السماء في غير وقتها لتبلل التراب تحت الأجساد الغضة، وأصدقاء الوجع رشفوا من حزننا.
بانت بعدها أنياب الضَلال لتنهش الحضارة والأخلاق والقيم، ولولا الثوابت والعقيدة النابتة في البيئة الطاهرة، لما انكسر سيف الظلام والأهداف الصدئة والأصوات النتنة المسعورة، انتصر دم الطهر، فالحق هو الفاصل بين الموت والحياة في وحدة الهوية الوطنية، متيقناً أن الخيار الأسمى ليس بالنصر وحده بل قدرة الحفاظ على الانتصار.
الاعتراف بالفكر والإبداع بمساواة الشهادة والشهداء، السبيل لتنوير العقول الضالة، ونشر الوعي في كل الاتجاهات، تبيان الفارق بين المعرفة والجهل سلاح ضمان حرية الوطن، وتقديم القدوة الصالحة، خلاص الأجيال القادمة من ذاكرة الإرهاب.
أما السبيل للنهوض بعد الخلاص فيحتاج إلى التأمل الواعي بعيداً عن براثن الحقد، ولأجل أن نجتث الأشواك من الدروب والمرارة من الحلوق، لابد من نبذ الكراهية، إحياء القلوب الذابلة يحتاج إلى حزمة ضوء تنعشها، فتزهر ذخيرتها عطاءً وحباً وفرحاً وإعمار وطن، تخربت فيه حياة الفقراء الذين كسرت ظهورهم أجرة المنازل والغلاء.
أما صرامة القانون فدواء يحفظ ماء الوجوه التي ثبتت في الأرض. ويقطع دابر كل آفن يزيد ثراؤه من قوت الشعب وكرامته. ويَجُبًّ حياء الفقير من أبنائه إن طلبوا ما لا يقدر عليه. (فاليد لا تطول الظهر). كم من شكوى تصدح على الأثير والشاشات.
أما آن أوان بتر رجس شياطين الداخل دواعش الأرزاق، المتشبثين بالفوضى التي تغطي جرائمهم، أما كفى البائسون القِلَّةَ والتشرد، هل نحتاج لدهور من التأمل يقضي خلالها المتعبون والمحترقون بجمر الدمار فتخلو الساحة للمستغلين يرتعون بسعادة؟
تمضي الأيام والفقير يزداد فقراً والمستور ينكشف سَتْره، وأولئك الذين نُهِبَتْ بيوتهم يسألون الله الرأفة، ما أسهل إعمار الوطن، حين تحضر الإرادة، من يقدر على صنع النصر فلن يعييه إعمار بلده. معظم شعوب العالم دمرت الحروب بلادها.
المُثُلُ كثيرة، الصين..اليابان حيث لا زرع ولا ضرع ولا نفط. وها هي تسابق الريح وتغرق العالم بصناعاتها، بعض من التفكير وكثير من التصميم، وقوة العزيمة تصنع المعجزات، شعبنا خلاق مبدع، تقدير العقول وإحاطتها بالعناية والمساحة دافعٌ للبناء.
في غَمرة الإعمار والعمل الجاد ومحاربة الحيتان، يُمسَحُ الحزن عن القلوب وتَرتَسم البسمة الضائعة على الشفاه المتعبة، تشتد السواعد وترتفع الهامات مع عرق الجباه، يعود الوطن أفضل مما كان، يقهر عدوه غيظاً وكمداً، تزهر الحقول وتختال أجنحة الفراشات، تشدو البلابل ويدندن البناؤون أغاني النصر والفرح، وتمضي الأيام... تتكدس السنون، ويبقى ذكرى ميلادها عيداً ينزُّ جرحه في قلبي، هي وسورية صنوان.