ليسهل على القوى الاستعمارية استباحة الشعوب واستلابها وفي سبيل تحقيق أهدافها هذه نشرت قواها ومستوطناتها للعبث في العقل البشري وزرع الفكر العبثي والعدمي من جهة إلى جانب الفكر الغيبي والظلامي والفردية المطلقة في المجتمعات . هذا الواقع الجديد أدى إلى نشوء وتنامي ظاهرة العمالة والخيانة في بلدان العالم ومن بينها وطننا العربي,مع التأكيد أن الخيانة ظاهرة ليست جديدة على المجتمعات البشرية عامة وعلى امتنا العربية قديماً وحديثاً .
فمنذ القديم كان هناك من تهون عليهم نفوسهم وقيمهم وأهلهم وأوطانهم مقابل الأموال أو الإغراء بالمناصب والسلطة فالتاريخ يذكرنا بخونة السيد المسيح عليه السلام وبخونة الرسول محمدصلى الله عليه وسلم وبأبي رغال والاسخريوطي وغيرهم وفي الحقيقة يوجد في كل زمان ومكان خونة يغرهم المال والمناصب, كما يوجد شرفاء لا يباعون ولا يُشترون. والتاريخ مليء بأسماء الخونة وأسماء الشرفاء. اما الخونة فالتاريخ يلعنهم مهما بلغ غناهم ومركزهم, ويدفع اولادهم الثمن مهما طال الزمن, واما الشرفاء ومهما كانوا فقراء يظل اسمهم على مر العصور ويصبحون قدوة الأجيال القادمة, فما نفع الانسان ان يربح العالم ويخسر نفسه واهله للأبد وفي التاريخ شواهد كثيرة نذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر, وهذا ما حدث مع بعض رجال الخليفة المستعصم , الذين راسلوا هولاكو سراً وزينوا وشجعوه على اخذ بغداد بما فيها من كنوز مدفونة, طمعاً في تعيينهم حكاماً بعد المستعصم ومن هؤلاء الخونة الوزير ابن العلقمي.
ولقد كان جزاء ابن العلقمي الموت لأن هولاكو صهر الذهب ووضعه في فم ابن العلقم ليكون عبرة لأمثاله من الخائنين ولقد ذكرني هذا ما فعله نابليون بونابرت مع الخائن الذي امد نابليون بالمعلومات اللازمة عندما استعصى عليه فتح النمسا مقابل المال, وبعد انتصار نابليون قدم الجاسوس الخائن ليصافح نابليون مهنئاً إياه, وليقبض ثمن خيانته مالاً رفض نابليون مصافحته قائلاً لعناصره«أعطوه المال لكن لا أصافح خائناً لبلاده» . لقد بتنا نشهد اليوم تكاثر الخونة وارتماءهم في أحضان الامبريالية والصهيونية كما يتكاثر الذباب على المزبلة . وأخذت الخيانة وجوهاً متعددة فقد كان الشائع أن الخائن هو من يتصل بالعدو أو يفشي سراً هاماً من أسرار الوطن أو معلومة يمكن أن تضعف قوة الدولة أو غير ذلك وكانت العقوبة لا تقل عن الإعدام كونها تعد من الكبائر والجرائم الخطيرة ولكن اليوم تعددت وسائل الخيانة ولبست أقنعة متنوعة وتحولت من الخيانة الفردية إلى خيانة أنظمة حاكمة في بعض البلدان وتآمرها على أمتها كما يحدث اليوم من قبل أنظمة الخليج العربي . وباعتقادي أن من يتصل بالعدو ويفشي أسرار بلاده , ومن يحاول إضعاف قواته المسلحة ومن يمارس الفساد بكل أشكاله , ومن يعتدي على كرامة المواطن ,ومن يزيد في أسعار الحاجات الأساسية للناس ومن يمارس عملية إضعاف القوة الشرائية لليرة السورية ومن لا يقوم بتنفيذ وظيفته وحل مشاكل الناس ومتابعة قضاياهم وفقاً للسلطة الممنوحة له بموجب القانون ومن لا يتحمل مسؤوليته بالشكل الأمثل ومن لا يقول الحقيقة ويمارس تضليل الناس وخداعهم هو خائن , أي إن كل من يقوم بعمل يضعف الوطن ويسيء للناس هو خائن .
إن ما يدعو للقلق هو تنامي الحس الانتهازي والنزعة الفردية والتواطؤ مع الأعداء من قبل بعض ضعاف النفوس والذين يمارسون كل أنواع النزعة الفردية ولا يفكرون إلا بخلاصهم الفردي وان غرق الآخرون وهم بفعلتهم هذه يحتشدون في صفوف أعداء الوطن سواء علموا أم لم يعلموا لأنهم يتسببون في ضرب وحدة الوطن وضرب ركائزه الأساسية ولا يختلفون عن الذين يحملون السلاح ويقتلون الأبرياء ويدمرون المؤسسات الحكومية التي هي بالأساس ملك للشعب وعن القابعين في قصور أسيادهم المستعمرين الذين يعلمونهم فنون التآمر والخيانة ليعبثوا بالوطن ويمهدوا الطريق لاستباحته . . إذاً ليست الخيانة هي فقط التي يمارسها اليوم بعض الحكام العرب وأدواتهم الذين تم تصنيعهم في أوكار الاستخبارات الغربية , والذين رهنوا أرضهم وثرواتهم لأعداء الأمة وزرعوها بالقواعد العسكرية لضرب أبناء الأمة وجعلوا من بلدانهم وثرواتهم سلاحاً للفتك بأبناء جلدتهم, وليست الخيانة فقط التي يمارسها بعض ما يسمون أنفسهم مفكرين ومثقفين وصحفيين وأكاديميين ويزورون الحقيقة ويكذبون ويطبلون ويزمرون ويبررون للقتلة وللمستعمرين جرائمهم تجاه مجتمعهم وأمتهم وليست التي يتعاطاها ما يسمونهم مدافعي عن حقوق الإنسان وناشطين حقوقيين فحسب وغير ذلك من المستوطنات الفكرية والسياسية والاقتصادية التي انتشرت بين ظهراني الأمة في الآونة الأخيرة بهدف تمزيقها واستلاب عقول شبابها وتدمير مقوماتها الحضارية وكل مصادر قوتها , بل هي كل ذلك فهي اليوم بماركات مختلفة كظاهرة الإرهاب وظاهرة الفساد وظاهرة الانتهازية وغير ذلك .فلا يمكن أن يكون وطنياً من يستغل حالة الحرب التي يخوضها الوطن مع الأعداء ويحتكر غذاء ولقمة عيش أبناء مجتمعه , ولا يمكن أن يكون وطنياً من يضع يده في يد أعداء الوطن ويدعو للتدخل الأجنبي ويسهل دخول العناصر المجرمة لتقتل الناس تحت أي يافطة كانت , ولا يمكن أن يكون وطنياً من يتخلى عن أرضه لعدوه ويغمض عينيه عن الجرائم التي ترتكب بحق شعبه .
إن الذين يفعلون ذلك لا يمارسون حرية ولا يملكون وجهة نظر لأنهم بذلك يدمرون الوطن, والوطن هو ملك جميع أبنائه ولا يحق لأحد العبث بأمنه أو التصرف تجاهه بأي شيء يمكن أن يضعفه ويقلل من مناعته ويسيء لأبناء الشعب فهناك فرق كبير بين التصرف الشخصي الذي لا يؤثر إلا على صاحبه وبين التصرف الذي تنعكس آثاره على كل أبناء المجتمع .
على أي حال, إن الرئة التي يتنفس منها الخونة ضيقة لسببين أساسيين أولهما:امتلاك شعبنا للقيم الحضارية والأخلاقية التي تبخس وتدين مثل هذا العمل القذر والثاني: أن القوى المولدة والحاضنة لهذه القيم بدأت بالتلاشي والسقوط . وبالتالي على القوى الوطنية الحقيقية بكل أطيافها أن تقوم بتعرية هؤلاء وكشفهم والمطالبة بمحاسبتهم أينما كانوا وحيثما حلوا لأن الوطن هو أغلى من أي كان وان نتجرد من كل الصغائر والمكاسب الآنية الرخيصة وان تكون المحاسبة بقدر هذه الجريمة الدنيئة المخزية . لقد آن الأوان للفرز الوطني بين الوطني الحقيقي وبين الذي يدعي الوطنية.