شاءت الأقدار لذاك الفتى اليتيم البسيط أن تمشي قدماه فوق أفخم السجّاد بعد أن كادت تنزلق للأتربة والأشواك والأوحال... والنسيان.
أصابه سحر عود القصبجي..و زاد عليه كما فعل زرياب مع أستاذه الموصلي، تربّى في كنف أمير الشعراء وشاعر الأمراء أحمد شوقي الذي ترجّل عن صهوة الفصحى وكتب له أغنية (النيل نجاشي) بلغة أهل البلد،تعرّف إلى علية القوم من رجال الفن والأدب والفكر والسياسة كطه حسين وتوفيق الحكيم وعبد الرحمن بدوي والنحّاس باشا وغيرهم من ذوّاقة الفن وعشّاق الحياة.
زار أجمل المدن و العواصم رغم خوفه وهلعه من الطائرة، وحطّت به البواخر في ميناء مرسيليا القديم حيث غنّى عندما يأتي المساء و مدريد حيث شاهد أنفس وأندر لوحات العالم، تلك التي قال فيها شوقي بيك: (صور تريك تحرّكا والأصل في الصور السكون).
صاهر أعرق العائلات المقدسية وجالس كبار الحكّام والزعماء... فأنصتوا لصوته أكثر ممّا أنصت هو إلى أحاديثهم، لم يغيّر من آرائه، بل جعلهم يعدّلون من مواقفهم، لقد غنّى: (أخي جاوز الظالمون المدى فحقّ الجهاد وحقّ الفداء) دون أن يكون بوقا لأحد، كما غنّى غيرها من تلك التي امتعض منها بعض غلاة الحماسة الثوريّة... دون أن يخشى لومة أحد.
كيف لزائر الأقصر في مصر أن يمرّ مرور الكرام دون أن تسري إليه أغنية (سمعت في شطّك الجميل ما قالت الريح للنخيل), كيف لزائر زحلة اللبنانية أن لا يتذكّر رائعة (ياجارة الوادي), كيف لراكب جندول في فينيسيا أن لايدندن بـ (الجندول)... كيف لمن يمخر عباب البحر أن لايصدح بأغنية (عندك بحريّة يا ريّس)... والتي يحسبها الكثير من ألحان وديع الصافي، كما ظنّ الكثير بأنّ (سكن الليل) من ألحان الأخوين رحباني، أو (بلاش تبوسني ف عنيّ) من الأغاني الشبابية الحديثة.
آخى عبد الوهاب بين البيّات والحجاز من جهة وبين الفالس والتانغو من جهة أخرى... لقد تعانق في حنجرته وتحت ريشته الشرق والغرب كنهر ذاهب إلى كهف الخلود.
لم يكن عبد الوهاب مجرّد فنّان بل فنّان مجرّد... عن كل الأهواء والحساسيات والحسابات الضيّقة، يسكب لحنه في الحنجرة التي تستحقّه، من (فكّروني) و(أنت عمري) لأم كلثوم إلى عبد الحليم، إلى كل روائع نجاة من قصائد نزار... إلى ما تفرّد به هو مثل (كل ده كان ليه) التي أضعت البارحة بسببها موعدا حين سمعتها في التكسي وقلت للسائق: توقّف ودعني أستمع لها حتى النهاية.
توقّفت عند تمثاله في دار الأوبرا المصريّة فوجدته جالسا يلفّ الساق على الساق، بينما كان بقيّة زملائه من فنّاني تلك المرحلة الذهبية وقوفا أو بـ (بورتريهات) نصفيّة..., نعم, لقد آن لهذا الكبير أن يستريح بعد أن جعل العرب يفخرون بأنّ حناجرهم لا تصلح فقط للصراخ، بل للفنّ الراقي والغناء الأصيل والكلمة الآسرة.
كثيراً ماكنت أستغرب لاستغراب أصدقائي: لماذا هذا الوله بعبد الوهاب وأنت في سن الشباب..!...,. هل تكفي إجابة: أنه موسيقار الأجيال ثمّ أسكت ؟, أم إنّ في الأمر شيء آخر قد لا أعلمه؟.
نعم, مازلت أحتفظ باسطواناته القديمة التي ورثتها عن أبي، أمسح عليها بحنوّ ورفق ثمّ أعيدها إلى مغلّفاتها في أدراج الصمت بعد أن سكتت (المكنة) القديمة ولم أجد من يصلحها، كان ذلك بعد رحيل والدي بفترة قصيرة.
نعم, أنا لاأستمع إلى أغانيه فقط,بل أشتمّها وأتحسّسها وأتذوّقها و.. أراها في شرود أبي أمام هذه المكنة الصامتة احتجاجا على غياب الأناقة وحدادا.
hakemmarzoky@yahoo.fr