وما بالنا إذا اجتمعت تلك الميزتان في دمشق وربوع شامنا؟
وقد وصف المؤرخون والأدباء رمضان دمشق بكثير من الأوصاف والصور البهية حيث قيل فيه: « رمضان القديم كان يغمر أرجاء دمشق كلها، فكنت تشعر به حيث سرت، تراه في المساجد الممتلئة بالمصلين والقارئين والمتحلقين حول كراسي المدرسين، وتراه في الأسواق، فلا تجد عورة بادية ولا منكراً ظاهراً ولا مطعماً مفتوحاً ولا مدخناً ولا شارباً، تشتري البضاعة وأنت آمن من الغش والغبن، لأن أفسق البائعين لا يغش في رمضان، والمرأة تعمل مطمئنة إلى أنها مهما أخطأت فلن تسمع من زوجها كلمة ملام، لأن الصائم لا يشتم ولا يلوم في رمضان (والأصل أن يكون هذا في غير رمضان كذلك)، والرجل يرجع إلى بيته وهو آمن أن يجد من زوجه نكداً أو إساءة، لأن المرأة الصائمة لا تؤذي زوجها في رمضان (والأصل أن يكون هذا في غير رمضان كذلك)، ولو تركت بيتك مفتوحاً لما دخل المنزل لص، لأن اللصوص يُضربون عن العمل ويتوبون عن السرقة في رمضان».
وتكون الأسواق مضاءة والأولاد مزدحمون فيها على بائع المثلجات إن كان الوقت صيفاً أو بياع الفول، ومن أراد لهواً لم يجد إلا الحكواتي يقص قصة عنترة وكلها بطولة ونبل».
للشهر الكريم - رمضان – خصوصية تميزه عن بقية شهور السنة وتبتهج غالبية الناس بقدومه ، حيث تمثل أيامه ولياليه مشاهد روائية جميلة وغنية بألوان ثقافية متعددة, فتكثر التعبيرات الاجتماعية التي توارثها الأجيال عبر الزمن لا سيما من خلال حرفهم وأعمالهم اليدوية البسيطة.
رمضان في دمشق سيرة إيمان ومحبة تجمع الماضي بعاداته وتقاليده والحاضر بتقنياته فنشاهد الصانع الذي يتفنن في صنع الفانوس وفي تزيينه ليكون تحفة أثرية تلفت الأنظار. فدائما ما كان الأطفال يمشون بالفانوس الصغير في مساء يوم رمضان وبداخله شمعة، يوقدها الزائر عند انتهاء زيارته ليلا. وهناك فانوس لإضاءة الحارة.
والدومري هو الذي يزينه ويمسح بلورته ويشعله، وأما الفانوس الكبير نجده في واجهة المحال وفي بيوت الكثير من الناس. وكان في السابق الثري في الحارة هو الذي يضع الفانوس على باب داره ويذكر أن الصانع يكتب اسمه على الفانوس الكبير.
وللأمسيات والزيارات في رمضان وقع خاص، فهي تكون للمباركة بالشهر الكريم. وتكون بين عائلات الحارة، وبين الأقارب، وتكون بشكل دوري كل يوم في بيت. ويتخلل السهرة الحزازير. وتقول كل امرأة مثلاً . وتتبارى بالزلاغيط. والحكايات والروايات.
وأحيانا تجتمع العائلة في مطعم من مطاعم دمشق القديمة أو في بستان للتعارف بين الأحفاد والشباب ، وهذا يتمثل بالأسر الدمشقية العريقة.
ومن اللوحات الجميلة في رمضان الشام بائع الناعم، وهو رقائق من العجين المقلي بالزيت مع رشة من الدبس وينادي البائع: يللي رماك الهوا يا ناعم، ويسرع الأطفال لشراء أطباق الناعم. والخبز المعروك يباع في أفران الكعك، على وجهه اليانسون والسمسم. وينادي البائع: ياما عركوك بالليل يا معروك. ومع ارتفاع درجات الحرارة في الصيف لابد من سطل العرقسوس من عند العرق سوساني في الحارة أو التمر هندي. وعلى وجه السطل قطعة ثلج، وبه عطر من زجاجة عطر، فتفوح منه رائحة عطرة. وكذلك قمرالدين والنقوع لابد منه، ومن شرابه في رمضان، ولاسيما في أيام الصيف الحارة، فهو رطب يرطب الجوف ويريح الصائم.
كما ينتشر بائعو الخضار والفواكه والمجففات وغيرها عارضين بضائعهم بطرق مختلفة وجذابة، ويكثر الازدحام خاصة في العشر الأخير في أسواق دمشق التقليدية كالحميدية والبزورية وخان الجمرك والعصرونية والحمراء والصالحية وأبو رمانة والقصاع.
ومن جماليات رمضان (السكبة) التي تميز بها أهل الشام وهي سكبة الطعام، ولا سيما من الطعام الفاخر مثل الكبة المشوية التي تفوح رائحتها على الجيران فتغور القلب، والأبوات والسجقات واليبرق والمحاشي وغيرها. وكان أهل الحي يأكلون من سفرة واحدة وكأنهم أسرة واحدة.
ويجتمع السوريون حول موائد السحور الشهية والغنية بالمأكولات الشهيرة المحضرة من الخضار واللحم والسمن وبقية الأطعمة، كالزيتون والبيض والجبن والشاي والمربيات والزعتر وغيرها.. ومن أهم ملامح العادات الرمضانية الإعلام بقدوم الشهر بمدفع الإثبات الذي تطلق قذائفه عصر اليوم السابق لشهر الصيام وفي الأسواق ينتشر باعة الحلويات الشهيرة مثل الكنافة والنهش وهي حلوى من سكر وعجين وقشطة وفستق حلبي والمعجنات كالمعروك وهو نوع من خبز رمضان مزين بالسمسم والناعم وهو طبق شعبي من العجين مقلي بالزيت ومزيت بالدبس، أما محلات بيع الحمص والفول والسوس والمخللات حيث يتنافسون في عرض بضائعهم على المشترين والمستهلكين.
ويختم أهل الشام رمضان بخاتم شعبي متعارف عليه بقولهم إن العشر الأول من رمضان للمرق، كناية عن الاهتمام بإعداد وجبات الطعام والعشر الأوسط للخرق، أي لشراء ثياب العيد، والعشر الأخير لصر الورق كناية عن الانهماك بإعداد حلوى العيد كالمعمول والكعك.
رمضان كريم وكل عام وأنتم بخير.