وقد يتسلّل العشق إلى قلبها إذا كان مُطريها حاذقاً في صنعته .
وذهب بعض الأدباء إلى القول إنّ اهتمام المرأة بجمالها يطغى على تفكيرها ، ولعلّ هذا الطغيان يجعلها أسيرة اهتمامها بتنمية هذه الثروة التي تراها يداً بيضاء َ جاد بها الخالق عليها ، وليستْ على استعدادٍ للتفريط بها ، وإلى هذه الحقيقة أشار عمر بن أبي ربيعة في قوله :
كتِبَ القتلُ والقتالُ علينا وعلى الغانياتِ جرُّ الذيولِ
وجاء بعده أحمد شوقي مقرّاً ما قاله :
خدعوها بقولِهمْ حســـــناءُ والغواني يغرّهنّ الثناءُ
ومرّ الزمن الطويل والمقولة تنتقل من لسانٍ إلى لسانٍ حتّى ساد الاعتقاد أنّ المرأة وحدها دون خلق الله هي التي تحرص على جمالها حرص الظمآن على زجاجة ماء قراحٍ يراها الخيط الأخير الذي يصله بالحياة ، ونسيَ القومُ مخلوقاً آخر اسمه الرجل يبدي هو الآخَرُ ما تبديه المرأة من اهتمام بنفسه ، وكدْنا نظنّ يوماً ما أنّ دور الازياء لا تطرح إلاّ ملابس نسائيّة ، متناسين أو ناسين أنّ كبار مصمّمي الأزياء كانوا أبناء ( آدم) لا بناتِ ( حوّاء ) .
وعرفنا في مراحلَ تاليةٍ أنّ هناك دور أزياء تطرح ملابس تشدّ أنظار الرجال والنساء على حدّ سواءٍ .
معرفتنا هذه ولّدتْ لدينا رغبة في طرح السؤال التالي : هل الرجل يمكن أن يعشق بأذنيه شأنه شأن المرأة ؟1.
طرحْنا السؤال وظللنا على قناعة أنّ الجواب سيلمّ بنا عاجلاْ أو آجلاً ، وبينما كنّا ننتظر قدومه بدأنا نلمس إرهاصات ذلك القدوم ، تلك الإرهاصات التي بيّنتْ لنا أنّ الرجل ينافس المرأة رغبة في سماع المديح ينهال عليه من قبل الآخرين .
وعدنا إلى كتب التاريخ نستوضح السبب فأفهمتنا تلك الكتب أنّ الشعراء حظوا لدى الخلفاء والملوك والأمراء بمكانة جعلت الآخرين يحسدونهم عليها كلّما ذرّت الشمس قرْنها .
بل إنّ الخليفة العربيّ كان يطيل الوقوف عند كلّ بيت من أبيات القصيدة مشيداً بذلك البيت ومبدياً ملاحظته على ذاك البيت.
فنحن نقرأ مثلاً أن عبد الملك بن مروان سمع علم بقصيدة جرير التي يقول فيها مفاخراً بالخليفة :
إنّ ابنَ عمّي في دمشقَ خليفةٌ لو شئتُ ساقكمُ إليّ ظعينا
فاستشاط لهذا البيت غضباً لأنّ ( جريراً ) قال : ( شئتُ ) ولم يقل : (شاءَ ) ، وأردف الخليفة قائلاً : لقد جعلني شرطيّاً عنده .
وعندما ابتدأ المتنبي إنشاد قصيدته في ( الحدث الحمراء ) ومطلعها:
على قدر أهل العزمِ تأتي العزائمُ وتأتي على قدْرِ الكرامِ المكارمُ
تمايل عِطفا سيف الدولة إعجاباً بالقصيدة ، حتّى إذا وصل المتنبي إلى قوله :
وكان به مثل الجنونِ فأصبحتْ ومن جيفِ القتلى عليها تمائمُ
لم ترق كلمة (جيَف ) لسيف الدولة وطلب إحلال كلمة ( جثث ) مكانها ووجد في هذه الكلمة إفساداً لرونق القصيدة وبهائها.
لكنّ إعجاب الرجل بالمديح جعل بعضهم يقف اختصاصه على هذا الفنّ ، وقادته رغبته في التقرّب من صاحب السلطة والجاه إلى امتهان مهنة أخرى هي النفاق تلك المهنة التي استطاعتْ للأسف طرح بضاعة راج سوقها رواجاً كبيراً .
المديح مطلوب على أن يستخدَم في المكان المناسب والزمن المناسب استخدام الملح في الطعام يعطيه طعماً ، أمّا إذا زاد عن الحدّ المطلوب فإنه يفسد الطعام .
وقد يبدو التشابه كبيراً بين المديح والنفاق لكنّ الإنسان العاقل يلمح بسهولة نقاط الاختلاف بينهما ، وهو اختلاف يساعدنا على تمييز الخبيث من الطيّب إلاّ إذا كنّا من ضعاف ومرضى النفوس :
ومنْ يكُ ذا فمٍ مرٍّ مريضٍ يجدْ مرّاً بهِ الماءَ الزلالا