وهذا دليل على أهمية هاتين المحطتين في تاريخية رحلة القصيدة العربية الحديثة، من حيث الرؤية والرؤيا على الرغم من أن هذه القصيدة قد عرفت العديد من الملامح الإضافية الجديدة، الجمالية في بنية النص الشعري، وفي معالجته وفي فتح آفاق جديدة فيه، حتى حين يغلب السلب على التقييم وهذا يشير إلى أنه لولا تلك المقدمات لما كنا وصلنا إلى تلك المحصلة، وأغلب مايتركز عليه النقد حتى الآن في مرحلة الستينيات هو غلبة الأيديولوجيا، وهذا اعتراف بفاعلية الأيديولوجيا وبثقل حضورها وبدورها حتى حين تبدو الألوان باهتة في اللوحة الآن وأغلب التقييمات تنحاز لفكرة أن الأيديولوجيا كانت كابحاً ومثبطاً وقيداً على شاعرية الكثيرين من حيث البناء ، ومن حيث تحديد الآفاق المقبولة والمروج لها وهذا يعني أنه لولا تلك الصرامة في التقييم والموقف لكان للقصيدة العربية -ربما شأن- آخر وفي هذا الكلام (شيء) من الصحة وهو ليس صحيحاً بالكامل.
في تلك المرحلة كان ثمة عدد من الشعراء الذين دخلوا في طقوس الأدلجة، وحملوا اليافطات كما حملها آخرون غير أنهم لم يستطيعوا خداع أحد، ولم يصنفهم أحد خارج حدود أنهم (هتافون) هذا إن ظل ثمة من يفطن إلى ذكرهم بعضهم رحل وثمة من زال حيا شاهداً ، فلم يرفع التصفيق ولا التسويق من شأنهم وتقدم عليهم آخرون، كما أن تلك المرحلة بكثافة ما كان لها من سطوة ومن ترغيب وترهيب في المساحات القطرية وبخاصة الفلسطينية فيما بعد والتي أثبتت براعة ماكينتها الرسمية في فترة ما في اقتناص بعض الشعراء وفي إبرازهم وهم بالمناسبة ليسوا جميعاً فلسطينيي المولد، غير أن هذا كله لم يستطع إبراز شاعر ليس لديه لمعات إبداعية ، بل هو لعب دوراً في تقديم هذا على ذاك إعلاماً واهتماماً وربما تمويلاً، ما ساعد على تلميع البعض على حساب بعض آخر، كما أن تلك المرحلة برمتها لم تستطع تغييب شاعر حقيقي كبدوي الجبل كان محسوباً من الناحية الأيديولوجية في صفوف (الرجعية) السياسية، فكان رجعياً في السياسة ، أولاً في الشعر المفضل السابق، على تعدد تشعباته يطرح سؤالاً مركزياً: «هل يمكن شطب حضور الأيديولوجيا من الإبداع»؟
كل الدلائل تشير إلى أنه لافكاك للإنسان من الأيديولوجيا، حتى عند الزاعمين أنهم غير مؤدلجين أو أنهم -بحمد الله- قد خلعوا ذلك الثوب، وتابوا،!! لأن المنطق يقول: إن الأيديولوجيا هي بحد ذاتها أيديولوجيا.
وحتى حين تكون الأيديولوجيا مما يمكن أن يطلق عليها أنها (تلفيقية) بحسب لغة الذين كانوا بالغي التشدد في انتمائهم، بيد أن الذي ثبت التجربة أن ذلك التشنج في التعصب لمنظومة فكرية ما، أو حتى دينية ، مذهبية واعتبار ذلك وحده هو الصحيح وماعداه محض باطل.. هو المرفوض والذين يذهبون إلى المبالغة في أن محمود درويش مثلاً، حين قلت كمية الحضور (الملتزم) إن صحت التسمية فيما بعد في قصائده قد كان في شعره في سنوات العشر الأخيرة هو فنياً غير درويش السابق بسبب تطور البنية الفنية واتساع الرؤيا عند الشاعر، فدرويش لم يتخل عن فلسطينيته ولا عن إيمانه بضرورة مقاومة المشروع الصهيوني وقد تتكون قناعات جديدة في المعالجة والمواجهة واقتراح الحلول، وهذا تؤثر فيه التطورات السياسية ككل، والمعطيات وتقلباتها غير أنه لم يستطع وضع درويش في صف أوسلو مثلاً، وهذا ما أدى إلى استقالته من منصبه الرسمي.
في السياق يمكن القول باطمئنان: إن التطور في بنية الصورة الشعرية وفي تشييد البناء بهندسة فيها الكثير من التقانة والإتقان لم يكن وقفاً على محمود درويش وإن كان الأبرز بل نجده في التطور البنائي لدى عدد من الشعراء الفلسطينيين والعرب فخالد أبو خالد مثلاً، وهو شاعر فلسطيني في سنواته الإبداعية الأخيرة ليس هو ذاته من حيث البناء الشعري والصياغة والزخرفة الفنية على الرغم من أنه لم يخرج من فضاءات القضية الفلسطينية في مجمل شعره، وهذا ينسحب على آخرين من الشعراء العرب الذين لهم جدارتهم الإبداعية.
إذاً العلة ليست في الأيديولوجيا بل في الموهبة وفي الاغتناء الثقافي الرافد للموهبة، وفي القدرة على الإضافة والتجدد والتجديد نقول هذا دون إنكار أن صرامة الأيديولوجيا قد تكون سبباً في زيادة الحمولات التي قد ترهق النص بسبب أن شعرنتها تحتاج لطاقات فنية عالية.
لعله من المهم جداً ألا نغفل عن أننا في الوطن العربي منذ أن انزلق البعض إلى مشاريع التسوية التنازلية المتدرجة ومنذ أن بدأ يطغى حضور (السوق) الحر، الطفيلي، النهاب، حتى في المواقع التي تطرح شعارات وحدودية ديمقراطية اشتراكية منذ ذلك وثمة لجوء وهروب إلى الفضاءات الشكلية في الجنس الأدبي والاستظلال بظله، ليس كبديل حقيقي للأيديولوجيا، في مايمكن أن يقال بما قد استجد فيها من رؤى وبقابليتها للإغناء والاغتناء والخروج من الجمود النصي الصنمي ليس كبديل بل كمنطقة آمنة فيها شيء من إشباع الرغبة ومن تحقيق الذات، وهذا أمر مشروع ولعل هذا أبرز مايكون فيما يطرح عن قصيدة النثر، بما قد يخلع عليها من توهمات وتضخيم عند البعض فيرون أنهم يخترقون عبرها السائد والساكن والموروث ويفتحون آفاقاً جديدة هي منافذ الخلاص.
لاشك أن الإلزام أو الالتزام قد يشكل أفقاً محدوداً في حراك النص وقد يحجب عمن يتقيد به رحابات آفاق أوسع، ولنا لإدراك هذا الأمر أن نتصور أن شاعراً كأبي نواس مثلاً قد أوقف شعره على طرديات الصيد، أو شاعراً كالمتنبي لم يتخط حدود المديح ولم يحسن اصطياد العوالم الشعرية الأخرى العالية لإرسائها في موانئ إبداعه الشعري.
صحيح أننا في الأغلب الآن على الأقل نفضل أن نقرأ قصائد تحفل بالوجدانيات وبما هو كوني بالغ العمق والتعبير لأسباب كثيرة منها الرداءات التي جبهتنا بالالتزام كما في غيره ومنها ذلك الشرخ المفزع بين القول الشعري والحدث السياسي المجسد غير أننا لانستطيع إنكار أن قصائد المتنبي في المديح والهجاء وقصائد غيره قد حملت لنا الكثير من ملامح تاريخية الأحداث وواقع المجتمع، وتلك قيمة أخرى يختلف أصحاب هذه الدار في تقييمها شعرياً غير أن قيمتها الدلالية والتوثيقية هي ملمح حياتي لايمكن شطبه ولانكرانه وكل قيمة ليست سلبية في النهاية هي قيمة مقبولة.
بعد كل هذا، هل يستطيع الشاعر الحقيقي أن يكون خارج زمانه ومكانه بكل معطياتهما بدءاً من معاناة الرغيف وصولاً إلى هموم الأمة الكبرى؟!
من يستطع ذلك في تقديري هو أحد اثنين، إما أنه قادر على إيهام نفسه بأن مايسمى عوالم القصيدة الصافية هو أهم من انتمائه وأن الخيال عنده أو التخيل هو أكثر قيمة فنية من الواقع وآنئذ فهو ابن واقع افتراضي، مهما كانت درجة الجمال فيه، وهو بذلك في حالة انفصام حقيقي.
إذاً أن نكون مع الجمال يعني ضرورة أن نكون مع الحق والخير وإلا عدنا إلى المواقع القديمة المشكو منها.
al-naem@gawab.com