وأن ما يجري اليوم من ضغوط على بلادهم وما تتعرض له من اتهامات هو جزء من هذا الاستهداف للنيل من صمودها وكرامتها الوطنية, وتأتي خطب بوش بين الحين والآخر في هذا السياق العدواني إذ يعلن (أن صبره على سورية قد نفد), وتظل سورية صلبة متمسكة بمواقفها غير آبهة بهذه التهديدات, بل تزيد من تأجج مشاعر السوريين القومية ومن التفافهم حول قيادتهم انطلاقاً من إحساسهم بأن كرامتهم الوطنية مهددة.
وهي مسألة مهمة جداً لدى السوريين.. وكلما زاد بوش من أعمال القتل في العراق ومن دعمه للإرهاب الإسرائيلي في فلسطين وتأجيج الصراع في لبنان والصومال ودارفور, وفي إطلاق التهديدات والوعيد على سورية كلما صار تأجج المشاعر الوطنية والعروبية لدى السوريين أكثر اتساعاً وعمقاً, وهي مسألة تاريخية, منذ برزت التحديات الاستعمارية.إذ يقول باتريك سيل (كانت سورية ومازالت عقدة الغرب, لأنها ظلت في مواجهة المخططات الاستعمارية).
السوريون ينظرون إلى إدارة بوش بأنها تتعامل مع العرب معاملتها لأمة مهزومة ولشعب مقهور.. وتدأب على تهديدهم وإعلان قوتها.. ومن أهم مظاهر القوة هنا ودلائلها, أن الرئيس بوش يتوجه إلى العرب والسوريين بطريقة الغالب الذي يريد أن يفرض على المهزوم عداواته وصداقاته, وأن يجبره على تكييف علاقاته مع الآخرين وفقاً لهذه النتيجة, وهذا أمر لا يستطيع السوريون تحمله ولا تقبل به القيادة السورية. لقد كانت جولة الرئيس الأميركي في دول الشرق الأوسط تظهر على أنه آت إلى المنطقة العربية كمنتصر لا كطرف يريد أن يحل الصراع كما تظاهر في مؤتمر أنابوليس, إذ أعلن دعمه لإسرائيل ويهودية الدولة ووقوفه إلى جانب طرف لبناني في مواجهة أطراف لبنانية أخرى ولإطلاق التهديدات إلى سورية.
هذا السلوك الأميركي, يؤجج في السوريين مشاعر العزة الوطنية والقومية ويجعلهم أكثر صلابة في التحدي. لأنهم لا يقبلون الرضوخ والذل والمساومة والتنازل عن ثوابتهم ليس بشأن سورية وحسب وإنما بشأن كل القضايا السورية والعربية.
إن إسرائيل وأميركا تجهلان خصوصية الشعب السوري, وتجهلان حقيقة أكدتها الأحداث دوماً إذ يزداد التفاف السوريين حول قيادتهم كلما زادت التحديات الخارجية التي تواجه سورية, ويصبحون أكثر حماساً لقناعتهم.
بعد احتلال الإدارة الأميركية للعراق, أعلنت الإدارة الأميركية عن نيتها رسم خارطة سياسية جديدة للمنطقة, بدءاً من سورية المعاندة للاحتلال الأميركي إلى إيران وإلى دول كثيرة في المنطقة تخدم الأهداف الإسرائيلية وذلك بتفكيك المنطقة على أسس جديدة تعتمد على الحالة الإثنية والطائفية والمذهبية. زاد هذا من التفاف السوريين حول قيادتهم وحدث الموقف نفسه بعد حرب إسرائىل على لبنان في تموز 2006 وبعد تصريحات رايس خلال الحرب أنها ستشهد ولادة الشرق الأوسط الجديد, وأن الدم المراق في لبنان هو دم مخاض لقيام الشرق الأوسط الجديد... والحرب في حقيقتها أميركية وإسرائيلية, وتهدف إلى تدمير المقاومة اللبنانية, وفرض حكومة جديدة على لبنان تقيم اتفاقاً مع إسرائيل على غرار اتفاق أيار 1973 ووضع سورية أمام خيارين إما الرضوخ للرغبات الإسرائيلية الأميركية, أو مواجهة الحرب كما حدث للعراق. ولكن المقاومة انتصرت وانتصر معها موقف سورية, وهزمت إسرائىل وهزم مشروع الشرق الأوسط الجديد.
لا شك أن سورية مستهدفة, وأنواع هذا الاستهداف كثيرة, بعضه نراه في محاولة عزل سورية محلياً ودولياً وحصارها اقتصادياً وجرها إلى الأزمة اللبنانية, وتسليط حملات إعلامية تستهدف استقرارها وأمنها ومنطلقاتها ومواقفها. واليوم هي أكثر استهدافاً.. لأنها ما زالت تقف منتصبة القامة, انطلاقاً من ثوابتها ومن كرامتها القومية والوطنية في وجه كل التهديدات والتحديات.. وهي اليوم أكثر تلاحماً, والشارع العربي هو أكثر إدراكاً لأهمية هذا الصمود ليس في حياة سورية وحسب وإنما للأمة كلها ولقضاياها, وهو أكثر أهمية لنهج المقاومة الذي راح يتنامى في فلسطين والعراق ولبنان وفي أماكن أخرى من العالم العربي, وهو الروح التي تبعث في الجماهير العربية القدرة على التوثب في وجه أي استسلام.
من يعد إلى وثيقة مستشار البنتاغون ريتشارد بيرل, الذي شغل منصب مستشار بنيامين نتنياهو رئيس وزراء (إسرائيل) نهاية التسعينيات, سيكتشف إلى أي مدى سورية مستهدفة, وبيرل دعا الإدارة الأميركية إلى اتباع سياسة مع سورية تتجه نحو التهديد بالعدوان العسكري مترافقاً بضغوط اقتصادية وإعلامية ونفسية تدفعها للتسوية مع (اسرائيل) بالشروط الإسرائيلية. حتى عندما تحدث بتوسع عن العراق على قاعدة اجتياحه, ربط ذلك بتسهيل المهمة ضد سورية ووضعها تحت (المكبس) والاختيار بين المصير العراقي والحضن (الإسرائيلي).
صحيح أن الرياح لم تأت كما اشتهت السفن الأميركية,و(الإسرائيلية) لكن الصحيح أيضاً أن الاستهداف لم يحدد له سقف زمني, ووسيلة بعينها, فالمقاومة التي تواجهها أميركا في العراق وما يرافقها من خسائر أولاً, ومن سقوط كل الشعارات التي غلفت احتلالها ثانياً, تفرض إعادة النظر في ترتيب الأولويات واختيار الوسائل بانتظار الظروف الملائمة للخطط الموضوعة. لكن فترة الانتظار ليست فراغاً, ويجري ملؤها بما تيسر من وسائل ودسائس وألاعيب ومؤامرات تخلخل الأساسات وتهيئها للحظة هبوب العاصفة.
إذا أرادت الإدارة الأميركية, والرئيس بوش تحديداً أن يتعامل مع سورية عليه أولاً أن يتوقف عن إطلاق التهديدات, وأن يتعامل مع العرب تعامل الصديق أو تعامل الطرف الحيادي وليس تعامل القوي القادر على الضرب متى شاء, أن يقر بالحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني في العودة وفي الأرض وإقامة الدولة وأن ينظر إلى سورية نظرة خالية من التهديد والوعيد, وأن ينزع من ذهنه صورة الشريك في قهر العرب, وأن يؤكد للعرب وللفلسطينيين أن إدارته تعمل كوسيط نزيه بينهم وبين (الإسرائيليين). وأن يفهم أن السوريين ليسوا من يؤخذون بالتهديد والوعيد.