وبين هؤلاء في الموضوعات التي يطرقونها- وفي المفردات التي يستخدمونها في أشعارهم، وها هو ذا «جحظة البرمكي» يشكو زمانه ويصف بؤسه على طريقتهم:
تعجبت إذ رأتني فوق مكسور
من الحمير عقير الظهر مضرور
فقلتُ: لاتعجبي مني ومن زمن
أنحى علي بتضييق وتقتير
وفي نغمة تذكرنا بأبي الحسين الجزار يتابع جحظه قائلاً:
بل فأعجبني من كلاب قد خدمتهم
تسعين عاماً بأشعاري وطنبوري
ولم يكن في تناهي حالهم بهم
حرٌّ يعود على حالي بتغيير(1)
من أجل «حبكة النكتة»
.. ويضيف نصير الدين الحمامي بيته على المنوال الذي نسج عليه أبو الشمقمق- ولكنه يقرمسبقاً، بأنه اختارها في الأصل، وهو يدري أنها دار خربة ولايتردد من أجل إحكام حبكة النكتة، في اللجوء إلى أسماء السور القرآنية الكريمة: «إذا زلزلت» و«الواقعة».
ودارٍ خراب قد نزلت بها
ولكن نزلتُ إلى السابعة
طريقي من الطرق مسلوكة
محجتها للورى شاسعة
فلا فرق مابيني أني أكو
ن بها أو أكون على القارعة
تساورها هفوات النس
يم فتصفي بلا أذن سامعة
وأخشى بها أن أقيم الصلا
ة، فتسجد حيطانها الراكعة
إذا ماقرأت (إذا زلزلت)
خشيت بأن تقرأ (الواقعة)(2)
براغيث بيته.. كالذئاب
وإذا كانت المبالغة والتضخيم من دعامات فن الكاريكاتير فإن هؤلاء الشعراء، ذهبوا إلى أبعد مدى في هذا المجال، فابن حمديس الصقلي يشبه براغيث بيته بالذئاب وقد جعلت دمه خمراً.
جعلت دمي خمراً تداوم شربها
مسترخصات منه مالا يرخص
وهناك البعوض أيضاً وكذلك البق تشترك جميعاً في حفلة راقصة على جسد الشاعر:
فترى البعوض مغنياً بربابة
والبقَ تشرب والبراغثَ ترقص
غرفة تشبه الزنزانة
وقطع ابن دانيال الموصلي شوطاً بعيداً في المبالغة، حتى إن الغرفة التي ينام فيها لايقدر أن يمد فيها رجليه، فهي أشبه ببعض الزنزانات الضيقة:
في منزل لم يحو غيري قاعداً
فإذا رقدت، رقدت غير ممدد
أضف إلى ذلك مايحفل به المنزل من هوام:
والفأر تركض كالخيول تسابقت
من كل جرداء الأديم وأجرد
هذا، ولي ثوب تراه مرقعاً
من كل لون مثل ريش الهدهد(3)
برذون الشاعر أعرج.. وأعمى!
.. ويتابع الشاعر شمس الدين بن دانيال هذا منهجه في المبالغة، في وصف البرذون الذي يركبه، وهو ضرب من الدواب يشبه الحمار، لقد كان هذا البرذون أعرج ثم أصيب بالعمى:
قد كمل الله برذوني لمنقصة
وشأنه بعدما أعماه بالعرج
أسير مثل أسير وهو يعرج بي
كأنه، ماشياً، ينحط من درج
فإن رماني، على مافيه من عرج
فما عليه إذا ما مت، من حرج(4)
الأغرب من هذا كله، أن ينضم إلى هذه الطائفة من الشعراء، طبيب هو أبو القاسم هبة الله فإن سوق طبّه قد بارت مثلما بارت سوق الأدب، في ذلك الزمن كما يرى الأستاذ العطري الطريف أنه عَدّ أهل بغداد هم المترفين الذين ينفقون على الرعاية بصحتهم ،مكنياً عن ذلك بكلمة (تبغددوا) وأهل حمص بخلاف ذلك، وكنى عنهم بلفظة «تحمصصوا» وها هوذا الطبيب الشاعر يقول:
كلما قلت قد تبغدد قومي تحمصصوا
ليس إلا سترٌ يشال وباب مجصص
وأنا الكلب، كل يوم، لقرد، أبصبص
كلما صفق الزمان لهم قمت أرقص (5)
ومثلما سرق حذاء الشاعر ابن سكرة عندما دخل حمام السوق، كذلك سرقت ثياب الشاعر ابن قلافس-التي يقول إنها ثياب ملوك:
إن كنتَ يوماً مغيثي عند نازلة
فاليوم إني بين الظفر والناب
مازلت أملك أثواب الملوك
إلى أن ملكت سوقة الأقوام أسلابي
قالوا: الثواب عن الأثواب
قلت لهم خذوا ثوابي وردوني لأثوابي
البيان والبديع والجناس والطباق..
.. وكما يبدو أثر الصنعة والتلاعب بالألفاظ، في جناس وطباق.. الخ في شعر ابن قلاقس، فإن الأمرنفسه يلاحظ لدى محمود صفوة الساعاتي الذي لجأ إلى التورية أيضاً وهي تبدو في كلمتي (الرقيق) و(الدقيق) في البيتين التاليين:
فمعنى الرقيق الأول هو العبد والعبيد، ومعناها الثاني من الرقة كذلك لفظة: «الدقيق» فمعناها الأول هو القمح والطحين، ومعناها الثاني هورقة المعنى(6).
قالوا اتخذ لك خادماً
أنّ يكون لناظم الشعر الرقيق
قالوا: التمس لك طيب عيش
قلت: لا يرجى لرب اللفظ والمعنى الدقيق
هوامش
(1) أدبنا الضاحك- عبد الغني العطري- الطبعة الثانية- دار البشائر -دمشق ص 241
(2) المصدر نفسه -ص 241-242
(3) المصدر نفسه-ص 242
(4) المصدر نفسه -ص 242-243
(5) المصدر نفسه - ص 243
(6) المصدر نفسه-ص 243