يا كأس! ياوتر!
وحيث يبدع ليل العاشق السهر
أعدو وراء نجوم الليل، أو قدها
وراح يطفئها في الملعب السحر
إني وعينيك ياسمراء أغنية
طارت، يرددها السمار والسمر
حروفها: كل طرف قاصر
سكبت فيه السماوات
بعداً، ليس ينحصر
الشاعر وجع متمرد على قافية الأوجاع الاعتيادية..
والشاعر كبير بقدر ماهو عاشق ومتمرد، وحقيقي بقدر ما هو عال لاتربك رؤاه متطلبات العيش ولعنة الواقع..
محمد كامل صالح كبير إلى حد العشق المؤكد... متمرد على احتياجات عيشه إلى حد الجنون والافلات من أوجاع متطلبات المأوى واللقمة والميراث.
كتب محمد كامل صالح قصائد عذبة في المرأة الحبيبة أو الشبيهة بها أو القريبة من نور ونار الشعر...
وكتب أعذب الأغنيات الوطنية والملاحم وكتب الرؤى والأحزان..
ومنذ البداية كتب قصيدة أو مطالع قصيدة لم يكن يظنها طويلة جداً... إنها قصيدة الإهمال.
عاش لاتعنيه إلا القصيدة ذات الأناقة واللياقة والهندام البديع.. فترك الزوجة من غير بيت، مع أنه كان قادراً على امتلاك البيوت.
حتى مكتبه القريب من مقهى الهافانا، كنا نقرأ على مدخله لوحة باسمه (المحامي والشاعر محمد كامل صالح) ذهب، وضاع عن واجهته الاسم، وبقيت القصائد.
شاعر يبدع في الغزل والحنين والتطلع وعشق الوطن وإنسان الحياة، ويبدع أكثر في فن الإهمال والغياب عن دروس الامتلاك والجشع وتأمين مستلزمات العيش والزوجة والعائلة.
ومثله شعراء كبار عديدون أبدعوا وبرعوا في الإهمال والانصراف عن متطلبات الحياة المادية ودناءات اللقمة والتحصيل والجمع والضم والقضم... اكتفوا بغنى روحي باذخ، وبنوا عمارات فنية عالية، ملؤوها بالشبابيك والشرفات والأبواب وغرف التأمل والنوم والأحلام... وتركوا للآخرين اللاهثين وراء الأملاك اللهاث والفقر الروحي...
ليس نقصاً أن الشاعر متهالك وراء قصائده وأوجاعه النضرة، ولايحق لأحد أن يعاتبه لأنه راسب في درس الاستثمارات الخصوصية أو العمومية لكن العيب على الذائقة التي تهمل العذوبة والغنى لصالح التفاهات والركاكة التي صارت تتبوأ مركز الريادة الأدبية والإعلامية والثقافية...
حين تتهدم عمارات العقل والثقافة لافلات من الهلاك .. صدر لـ محمد كامل صالح ثلاثة دواوين (وسقط جدار النوم) و(صلوات في محراب عشتروت) و(أغنى الشموس) وعائلة جديرة بالتقدير والتحيات ولديه أوراق وأوجاع ورؤى وقصائد قيد الترتيب والصدور أو لعلها قيد الاهمال والفقد والغياب.
ليس من حق الغياب أن يحيل الشاعر إلى الفقد المزمن والضياع لأن في ذلك خيبة وخسارة تصيبان الذوق وفنية الدروس الراقية.
الشاعر عبر عمره الممتدّ بين أحزانه وأحلامه والمترامي باتجاه بروق حب واشتياق يؤلف دروساً سابقة لأوان الخراب، مفرداتها أسخى بالحنين والحياة وكرامة الرؤى والذوق والفن من جميع مؤلفات وقواميس الخراب.. وحده الشعر يمطر ملء سماء الأحباب البروق ويسقي الأنساغ أبعد مما تظن الأغصان المتورطة باخضرارها المؤقت.
ذكرى رحيل وبداية الشاعر تحفظها أمانة سجل القصيدة والرؤى والتأملات التي تبقى على ذمة التأويل والعذوبة وقد تصير في ذمة العذاب والمتروكات التي لا تمتد إليها يد الزمن الشعري والإنساني.
صدرت وتصدر دراسات وكتب تتحدث عن هوس الثروة وأمراض الثراء... المبدع شاعراً أو فناناً رساماً أو روائياً أو عالماً أو مؤرخاً أو مؤلف مقامات له هوسه النفيس الذي لا يعنى بأمراض الثراء بقدر عنايته بثرائه الداخلي الذي يؤلف حباً وينتج عائلات قناعات ويبتكر كوناً رحيباً يتلاقى فيه المحبون.
المبدع ينشئ سعادة عالية كجبل مسقيٍّ مطراً وسخاء ينابيع لم تلوث أغانيها ولم يصب جريانها بآفات النضوب وخشية اليباس.