ولابدّ دون الشهد من إبر النحل
( المتنبي)
تحدث الأدباء في كثير من مقالاتهم والشعراء في أبيات كثيرة أحاديث مفادها أن ثمن الوصول إلى المجد ثمن باهظ مكلف.
والوصول إلى الهدف بعد خوض طريق شاق مليء بالأشواك لذة ما بعدها لذة، وهو كما يرى الكثيرون يفوق متعة الوصول إلى الهدف من خلال سلوك طريق خالٍ من الصعاب والأهوال، لكن هذا لا يعني بحالٍ من الأحوال الدعوة إلى حشد المشكلات في الطريق، وإكراه النفس على خوض صراع مرير معها للانتصار عليها والتفرغ بعد ذلك للتمتع بثمار ذلك النصر، ولو فعل أحدنا ذلك لساد الاعتقاد أنه ساديٌّ يتلذذ بتعذيب نفسه، فكيف يصبح الأمر لو تحكّم برقاب العباد بعد ذلك وراح يُسرف في سومهم سوء العذاب عذاباً كبيراً؟!
ونحن ليتنا نعي كُلّ كلمة من كلمات المتنبي الرائعة، فمثل هذا الوعي سيريحنا من عناءِ داءٍ مزعجٍ اسمه الحسد.
فالحسد هو الذي يُلقي في روعنا أنّ هذا الذي نراه عظيماً اليوم قد وصل إلى ما وصل إليه من مجدٍ وشهرةٍ عن طريق المصادفة، بمعنى أنه لم يُسل قطرة عرقٍ واحدة أهلتّه لهذا المكان الذي بلغه وربما تسرّعنا بإطلاق الحكم غير الصائب عليه فزعمنا أنه غير جديرٍ بهذا المكان وتلك المكانة.
والمشكلة في الحسد أنه نارٌ صغيرة تبدأ صغيرة، ثم تجد من يُغذيها بحطب الاشتعال فتندلع ألسنة لهبها في الاتجاهات كُلّها، وتصبح السيطرة عليها أمراً فوق طاقتنا هنا تزداد خيوط المشكلة تعقيداً، وشيئاً فشيئاً تصبح عصيّة الحل.
وفي غمرة هذا الميدان حيث تختلط الأمور بعضها ببعض في سياق بعيد عن الواقع والمنطق تجد الحقيقة نفسها في عزلة قاتلة، فتؤثر الابتعاد عن المشهد تدريجياً ثم تتخذ القرار الحاسم بالانسحاب النهائي.
في هذا المشهد تجد الوشاية الميدان مفتوحاً أمامها فتروح صائلة جائلة فيه كما يحلو لها.
يتقرب الحسود من الشخص الذي يملك القدرة على التأثير على ذلك الإنسان الذي بلغ ما بلغ من جد ونجاح بكد يمينه وعرق جبينه، ويروح ينسج كما شاء خياله المريض تلك القصص الملفقة الكاذبة عن ذلك الإنسان الناجح. يلصق به تهماً كاذبة في محاولة محمومة لإيغار صدر صاحب القرار عليه.
والطامة الكبرى تكون عندما يجد آذاناً صاغية من قبل صاحب القرار، ويشعر الواشي الحسود أن مكانته تعلو لدى الموشى إليه على حساب الموشى به، فيبتكر كل يوم المزيد من الحكايات والأقاويل والحوادث التي لا تمت إلى الواقع بأدنى صلة.
وفي مواجهة مثل هذا الواقع الأليم نجد أنفسنا مضطرين لطرح هذا السؤال:
ما الذي سمح لمغمور مثل هذا المقيم أن يحمل العصا ليشير بها إلى أخطاء هذا ومثالب ذاك، ومن الذي منحه الحق بتقييمهم؟!
والجواب لا يتطلب بذل تلك الكمية الضخمة من الجهد لأنه على درجة عالية من الوضوح.
الذي سمح لهذا بالتقييم غياب المعايير الموضوعية للتقييم، وعندما تغيب مثل هذه المعايير تنقلب المفاهيم انقلاباً خطيراً، ويختلط الحابل بالنابل.
ما نتمناه صادقين أن تكون المعايير الموضوعية هي الأساس المعتمد في التقييم، لا وشاية هذا ونميمة ذاك وحبذا لو جعلنا عمل الرجل قاعدة للحكم عليه متذكرين قول الشاعر:
تلك آثارنا تدل علينا
فانظروا بعدنا إلى الآثار