من يقرأ هذا الإهداء في «وطنٍ من زجاج» يشعر بأنه يقرأ حاضرنا. الحاضر الذي نموتُ فيه كل لحظة ألف مرّة, والذي جعل الأديبة الجزائرية «ياسمينة صالح» تختاره زماناً لروايتها. زمن السواد القاتل والظالم, وضمن أمكنةٍ تمتدُ عبر المدى العربي المدمّى بسواطيرِ صنَّاعِ كلِّ أسلحةِ البشاعات ومن تبعهم ممن أفقدوا حياتنا كل المعالم.
«مات الرشيد.. دفنَّاهُ أمس مع زميلين له.. كيف يمكن تفسير هذه العبثية, وهذا الهباء؟.. تعودتُ عليه مبتسماً حتى في حالات الشتات والخوف اليومي, والجري خلف تلك الظلال الرهيبة الممتدة من وإلى الفراغ والهاوية, والتي يسميها الناس: إرهابيون أو متطرفون, أو مسلحون أو متمردون أو معارضون. ولكن, هل تهمُّ التسميات في عمقِ العتمة؟. لاأحد كان يعرفهم. هم الحاضرون في سوداوية ظلالهم حين يحاصرون المكان».
هذا ما ورد في «وطن من زجاج» الرواية التي امتلأت بأسئلةٍ مثلما عجزت «ياسمينة» عن إيجادِ جوابٍ لها, عجزنا أيضاً, ولاسيما بعد أن تحوَّل الموت إلى ضيفٍ مقيم لايبرحنا إلا بعد أن يقودنا أو يعوِّدنا على ما يعيثهُ في حياتنا من بلاءٍ ودمارٍ وجحيم. فإلى متى ننتظر ونتألم وننقهر, دون أن نغادر حافة أو قلب الخطر؟. إلى متى لطالما, تحوَّلنا ومن شدَّة ما ادلهمَّت الحياة فينا, إلى أوجاعٍ على شكلِ بشر؟..
لقد دفعتني هذه الرواية للتساؤل, عن سبب القتل في وطني السوري. تماماً مثلما تساءلت «ياسمينة» عن هدف القتل في وطنها الجزائري, ودون أن يشبع فضولي أو فضولها مارأيناه أو حُكي لنا, وعن:
«أولئك الناسُ الذين كانوا يتناوبون على حراسةِ أنفسهم وأهاليهم وبيوتهم وأملاكهم ليلاً, كانوا يجتمعون على أسطح البيوت وفي مداخل الأحياء ومخارجها. فرادى وجماعات, مسلحين بكلِّ ماتقع عليه أيديهم من عصيات خشبية أو حديدية..».
إنها البداية التي عشناها والتي تطوَّرت إلى أن استفحل إجرام المسلحين ممن وجبتْ مواجهتهم إلى أن فقدنا الشهيد إثر الشهيد. أيضاً, إلى أن فقدنا مع الفاقدين للأصدقاء والأهل والأحبة, أي قدرةٍ على البكاءِ أو الشعورِ بما لم يعد يُجدي أمام تعدادِ من رحلوا كي يحيا الوطن من جديد.
«كان يرفضُ أن يبكي على شهيدٍ استشهد لأجلِ مايراهُ قضية مصيرية.. قضية بقاء أو لا بقاء, وكان يعتبر الشهادة نضالاً ضد المافيا اليومية والمنظَّمة.. في الماضي كان الشهداء يعزّون أنفسهم بحلمِ الجماعة. يتنازلون عن أحلامهم الشخصية لأجل أحلامنا الجماعية. يعيشون الحرب بوحدةٍ وعزلةٍ روحية ولكن -كنا معاً- وهي عبارة تعني عزاءً استثنائياً صادقاً. تعني أن الشهادة ليست نهاية بل بداية لقناعاتٍ يحملها الشهيد إلى العالمِ الآخر. شهداء اليوم, يشعرون بأنهم في عزلة, وبأنهم عاشوا جوعهم وحزنهم وخوفهم لوحدهم».
إنها مأساة «ياسمينة» في وطنها الذي حوَّله الإرهابيون إلى «وطنٍ من زجاج».. مأساتها التي هي مأساة كل أبناءِ وطنها, ومنهم ذاك الصحفي الذي جعلت منه بطلاً, وبعد أن التقطت كلماته الخارجة من أمكنة الموت:
«طلبتُ أن نلتقط الصور كي نغادر المكان بسرعة. كان الكلام بلا جدوى قبالة وطن يموت أبناؤه ذبحاً. كانت الجثث مرمية على الأرض. غارقة في الدمِ. كنا نبذلُ جهداً كي لانمشي فوقها. رأيتُ أطفالاً صغاراً مذبوحين, ونساء كانت لحظة الرعب الأخيرة قابعة على ملامحهنَّ التي لم يبق منها سوى الجزع الأبدي».
ببساطة, لقد أرادت «ياسمينة» من روايتها هذه, أن تروي قصة وطنها الذي وجدته يبني قبره على أحلام من تبقى من شرفاء.. أرادت أن تقول بأنها لوَّنت مفردات روايتها بالأحمر, وأن أشخاصها كلهم قد تجسَّدوا في شخصية «عمي العربي» الذي خطفتهُ يد الإرهاب المتوحشة, والذي تخيَّلتهُ يُقتاد إلى مصيره الموجع, وكشهيدٍ في وطنٍ جعلتهُ يروي أحداثه بطريقةٍ حوَّلت روايتها إلى لوحةٍ من الفناءِ الجماعي, ولبشرٍ قام الهمجيون بفصلِ رؤوسهم عن أجسادهم, ومن ثمَّ بـتقطيعهم وتحويلهم إلى شظايا في «وطنٍ من زجاج»..