الذين صاروا على الأبواب، أما أبواب منزله، فعرضت للبيع ولم يقدر على شرائها هي وغرفة نوم أمه التي توفت إثر صدمة وحسرة وتشرد.. حتى أنها لم تحظ بقبر يحتضن رفاتها، ما يفترض على الموت أن يكون سترة..!
في رحلة تهجير طويلة وشاقة تحت سقف الوطن، نعيش أحداثها في سطور تمتعنا وتبكينا، هناك حين ارتكبت الحياة آثامها على أجساد أبنائها، جلدت أبناء القهر بسياط الرغبة والتعفف، فكان طريق البطل المتقمص الهارب مع عائلته إلى «عدروس «محفوفاً بالمخاطر حتى وقع بين أيدي الإرهابيين الفاتحين، وكأن الراوي والصحفي «سهيل الذيب» تقصد تكرار وصفهم في روايته.. كي نعتبر!
«نحن جند الله جئناكم بالعدل ننشره على كل شبر من أرض المسلمين، وكل أرض هي أرض الله، أي أرضنا، فكونوا الرعية المؤمنة المقاتلة في سبيل نشر دين الله، فدولتنا باقية وتتمدد حتى تعم الأرض كلها».
ظهرت ذاتية الكاتب في الرواية بطريقة غير مباشرة، عن طريق حوار الشخصيات، وعلى لسان بطله «مبعاث» من البعث والولادة المتجددة، ومع ذلك لم تكن أحداثها سرداً لتفاصيل خبرات وتجارب الراوي الشخصية وحسب، إنما اجتهد في إظهار مكنونات الشخصيات الثانوية والأساسية، فهي في النهاية بنات أفكاره الخلاقة كما اعتدنا عليها. «الآن فقط أدركت معنى الحرية.. لا الحرية التي فلقوني بها في الأرض المدماة، التي لا تحيا إلا في الأوكار والزنازين وسط لسع الأسواط وقلع الأظافر وسلخ الجلود وفقء العيون وأكل الأكباد..الحرية التي تحمل في كينونتها مقتلها الأشبه بالعبودية لكنها ويا لتعس عشاقها ظلت مضيئة مثل شمعة وسط رياح عاتية».
ظهرت عناصر الرواية جلياً، فكانت حبكتها الأولى أي العقدة رغم تحركات شخصياتها ساكنة بعض الشيء، إلى أن وصلنا لجزء بعنوان» شتات ثان» حين وصل البطل إلى الأراضي اللبنانية وهنا تغيرت مجريات الأحداث وتصاعدت وتيرة الصراع فازدادت تشويقاً وإثارة رغم كل مأساة التهجير الذي طال البطل وأسرته، حفاة عراة يفترشون الحدائق العامة، يفتقدون لقطرة حليب وحبة سكر لإرضاع الشقيقة الصغيرة» خلود»، التي ما إن فقدت حتى عانت من الاكتئاب الشديد بسبب الشعور بالإذلال والمهانة والمتاجرة بجسدها الغض في بلد الجوار..!
«أحاط بي الجنود من الجهات كلها، وهم يصوبون أسلحتهم تجاهي، فعرفت أنني ذلك الإرهابي لم يدهشني الأمر، فأنا من أمة لا تظهر بأسها وشراستها وإرهابها إلا على أبناء جلدتها بينما الأعداء ينهشون كبدها ليل نهار».
عاش «مبعاث» في دير مار الياس الذي خصص للسوريين الفارين من لظى الحرب، فتعلم التربية الإنسانية التي كانت عصب الدير إلى أن أحب فتاة اسمها إياس حداد حفيدة راعية الدير، فرغم أن الدير للحب الإنساني الأعظم.. فقط.. ارتكبا معاً اثماً اسمه الحب!
«المرأة هي الطريق، فإما أن توصلني إلى القمة، وإما أن تأخذني إلى الحضيض والدمار، فمن هي وأين أجدها».
أحداث متصاعدة، أوصلتنا إلى ذروة الرواية، مع جمل بسيطة ومفردات شفافة إضافة إلى اللهجة المحكية التي ابتعد فيها الراوي عن الرسمية، مسمياً الأشياء بمسمياتها فأجاد الوصف وحافظ على دلالاتها الرمزية في آن.
لم يوصلنا الذيب إلى حل عقدة الرواية بل بقيت محافظة على عنصري التشويق والإثارة ومع ذلك هناك نوع من المتعة الشعورية التي تدخل ذهننا كقراء نلمس فيها الصدق والواقعية، «معه حق المرحوم كارل ماركس حين رأى أن الدين أفيون الشعوب، وكأنه بذلك كان يقصد بلادنا عينها التي أخذت ما يخدرها من الدين وجعلت «اطلبوا العلم ولو في الصين» هباء منثوراً، واستكانت لما وراء السماء لنعيش دوماً في النزع الأخير من الحياة، حياة الثوب المرقع والخبز الجافر والأطفال العراة الذين يملؤون الشوارع والذين سنباهي بهم الأمم يوم القيامة».
لقد أمتعنا الراوي بلغته المتمثلة بعناصره اللغوية من التصوير والاستعارات والكنايات والبلاغة، «لقد آمنت دوماً أن الأعداء ظلوا على الدوام يزرعون الفتن لنبقى في حروب أهلية دائمة كي يستفيدوا منها في تمزيقنا، ودمارنا، وركوبنا، لنكون مجرد حمير لهم، لا هَم لدينا إلا الطعام والشراب والقتل والنكاح وتجذير الكراهية في نفوس أوهنتها العصبية حتى غيبت العقل».
ولا نستطيع إلا ونعترف أن رواية «آثام» جزء لا يتجزأ من واقعنا وتشرذمنا أمام أنفسنا، «الناس في بلادي بحاجة قصوى إلى الحرية التي ترتقي إلى المثل الأعلى، ولكنهم لم يعرفوها يوماً ولم يمارسوها، بل جاءتهم مستوردة عنوانها أفلام البرونو والانحلال والتفسخ القيمي، والأخلاقي والقتل الرهيب المقنع على الطريقة الهوليودية».
فبهذه الرواية أتم الكاتب والروائي والقاص «سهيل الذيب» رسالته الإنسانية بعد رواية «زناة» رغم الحقبة الزمنية المتفاوتة بين تفجير الأزبكية في السبعينات وبين ما أوصلنا إليه ربيعهم الأسود، هناك تشابه ما، في كلتا الروايتين، وهو يكتب للذين كافحوا من أجل عظمة الإنسان واحترام كينونته بعيداً عن دينه ومذهبه وعقيدته وقوميته إلى الإنسان ناشر قيم الخير والجمال رغم كل الآثام التي ترتكبها الحياة بحقه..!