تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


هنا جذوري.. هنا قلبي.. هنا لغتي..

ثقافة
الخميس 19-3-2009م
يمن سليمان عباس

لم يشغل شاعر عربي بالهم القومي كما شغل نزار قباني، شغل به من جوانب عدة، من الجانب الإبداعي أعلن ثورته على الرقابة في الشعر والإبداع وكان من المجددين الأوائل موضوعاً ولغة وأسلوباً وفي الجانب الآخر من الهم.. الهم السياسي همّ الهوية والانتماء.

فالفترة التي عاشها نزار هي فترة نضال عاصر الانتداب الفرنسي وهو طفل ورأى الوطن وهو يجزأ والأعداء يشنون الحروب عليه، عاش نكبة فلسطين وتوابعها رحل وقد امتلأ قلبه بالجراحات هذا كله أليس حرياً أن يملأ شعره بالغضب والنقمة على هذا الواقع؟ كيف يرى الأمة تجزأ وتستباح ويصمت؟ قد يبدو قاسياً في الكثير من قصائده لكنها قسوة الأب الحنون، قسوة من يريد لأمته أن تتبوأ المجد.‏

من قسوته هذه اتخذ بعض الأدعياء منفذاً للاتهام بأنه شعوبي ولكن مثل نزار لا يأبه لهذا الاتهام. في ذكرى ولادته السادسة والثمانين نتوقف عند كتاب مهم أصدره الباحث أحمد الخوص وهنا، برهان تحت عنوان «عروبة نزار قباني» وطبيعي أن ينشغل الباحثان بهذا الموضوع ليقدما دراسة متميزة وجميلة.‏

يقول الخوص «وفي اعتقادي: إن الشاعر نزار قباني عمل للغة العربية ما لم تفعله المجامع اللغوية في الوطن العربي مجتمعة حيث دخلت كتبه كل بيت وقرأها الكبير والصغير، المرأة والرجل، الشاب والشابة، حتى الأطفال درجت ألسنتهم على حفظ بعض ما قاله نزار قباني أما ما فعله وما سيفعله الآخرون فسيبقى على الرفوف».‏

ولما كان نزار قباني شاعر الجماهير العربية وأصبح سلطان الشعر العربي الراهن أخذت سهام النقد تصوب نحوه متهمة إياه بأنه شاعر الجنس تارة والشعوبية تارة أخرى والخروج عن القوانين الدولية التي تفرض الاعتراف بإسرائيل تارة ثالثة، وقد بقيت هذه الاتهامات في صدر مؤلفيها وأصبح بعضها الآخر يملأ صناديق القمامة، فكل دقيقة تمر وكل ساعة تمضي وكل يوم يفوت نرى أن علينا قراءة كل شيء يصدر من الوطن العربي ومن خارجه ولا سيما الشاعر نزار قباني الذي دخل قلوبنا دون استئذان أو تأشيرة، فهو أحد القلائل الذين يدعون إلى العروبة والنضال من أجلها في كل حرف يكتبه أو ضمة أو كسرة أو فتحة أو سكون يحتاجه هذا الحرف أو ذاك.‏

شاعرنا ودمشق‏

نشأ نزار قباني في بيت شامي كأنه قطعة من الروض وطريقه إلى مدرسته كان مثيراً للأنف واللسان معاً، كما يقول أما ثالثة الأثافي بعد البيت والمدرسة تأتي في حياة الشاعر نزار في دمشق حيث رفض أن يكون محايداً في حبه لها فيقول:‏

في دمشق لا أستطيع أن أكون محايداً..‏

فكما لا حياد مع امرأة نحبها فلا حياد مع مدينة أصبح ياسمينها جزءاً من دورتي الدموية وأصبح عشقي لها فضيحة معطرة تتناقلها أجهزة الإعلام.‏

هذه المدينة تخضني تشعلني تضيئني تكتبني ترسمني باللون الوردي، تزرعني قمحاً وشعراً وحروفاً أبجدية تغير تقاطيع وجهي، تحدد طول قامتي، تختار لون عيني، تؤكدني، تجددني، تقبلني على فمي فيتغير تركيب دمي.‏

في الشام لا أستطيع إلا أن أكون شامياً.‏

الواقع أن دمشقيتي هي نقطة ضعفي وقوتي معاً.‏

إن دمشق تتكمش بي كما يتكمش الرضيع بثدي أمه، مزروعة بي دمشق كما الحلق الإسباني مزروع في آذان الإسبانيات، مستوطنة في صوتي وفي حبري وفي دفاتري كما يستوطن السكر في شرايين العنقود.‏

كل حروف أبجديتي مقتلعة حجراً حجراً من بيوت دمشق وأسوار بساتينها وفسيفساء جوامعها.‏

قصائدي كلها معمرة على الطراز الشامي..‏

كل ألف رسمتها على الورق مئذنة دمشقية..‏

كل ضمة مستديرة هي قبة من قباب الشام..‏

كل حاء هي حمامة بيضاء في صحن الجامع الأموي..‏

كل عين هي عين ماء..‏

كل شين هي شجرة مشمش مزهرة..‏

كل سين هي سنبلة قمح..‏

كل ميم هي امرأة دمشقية وما أكثر الميمات في دواوين شعري..‏

وهكذا تستوطن دمشق كتابتي وتشكل جغرافيتها جزءاً من جغرافية أدبي..‏

لا يمكن الفصل أبداً بين الحبر الذي أكتب به وبين أنهار دمشق السبعة.‏

ونزار قباني شاعر العروبة لا يحب دمشق وحدها بل كما يقول الخوص: بل إن كل مدينة عربية هي أمة يحبها كما تحبه ويعتز بها كما تعتز به، فالوطن العربي الموحد هدف كل إنسان شريف يقول في قصيدة »أم المعتز«:‏

كل مدينة عربية هي أمي‏

دمشق، بيروت، القاهرة، بغداد، الخرطوم، الدار البيضاء، بنغازي، تونس، عمان، الرياض، الكويت، الجزائر، أبو ظبي وأخوتها.‏

هذه هي شجرة عائلتي‏

كل هذه المدائن أنزلتني من رحمها‏

وأرضعتني من ثدييها‏

وملأت جيوبي عنباً وتيناً وبرقوقاً‏

كلها هزت لي نخلها فأكلت..‏

وفتحت سماواتها لي كراسة زرقاء..‏

فكتبت..‏

لذلك لا أدخل مدينة عربية إلا وتنادني «يا ولدي»‏

لا أطرق باب مدينة عربية‏

إلا وأجد سرير طفولتي بانتظاري‏

لا تنزف مدينة عربية إلا وأنزف معها.‏

نزار قباني شاعر عروبي من الولادة إلى الممات وله في قلوب الجماهير العربية المكانة الأولى وهو الذي اعترف بهذا الفضل في الكثير من حواراته ولقاءاته.‏

نزار قباني قيثارة عربية لا تتوقف كل يوم تردده آلاف الحناجر.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية