تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


دفاتـري المبللـة بــهِ

ثقافة
الخميس 19-3-2009م
سوزان ابراهيم

لم أكن قد وعيت معنى كلمة قصيدة بعد, وما تجاوزت سنواتي التي لا يكمل عدّها أصابع اليدين, لكنني حفظت في أرشيف الذاكرة ما حدث ذات يوم ربيعي بعيد: سمعت صوت جدي وربما جدتي أيضاً ,وهما يعنّفان خالتي ذات السنوات العشرين,

أذكر أنني سمعت من ذلك الصخب كلمات مثل قصيدة, شعر, نزار قباني, بلا حياء... تلقّت خالتي العنف الكلامي بصمت, ثم دخلت غرفة لتُخرج بضعة أوراق من مخبأ سري أعدته خصيصاً لمثلها - حقيبة خشبية سحبتها من تحت طاولة خشبية طويلة, لطالما شكلت لها ملاذاً آمناً خلال أوقات القيلولة- كانت تلك الممنوعات قصيدة لنزار قباني شغلت كلماتها المغناة بصوت عبد الحليم حافظ بعد ذلك قلوب أبناء أجيال متعاقبة... رسالة من تحت الماء: اشتقت إليك فعلمني ألاّ أشتاق ، علّمني كيف أقص جذور هواك من الأعماق... الموج الأزرق في عينيك, يناديني نحو الأعمق.. هل بيننا من لم تبحر به هذه الرسالة إلى عوالم يستعصي علي الآن وصفها بكلمات!‏

في مرحلة الدراسة الثانوية لم أعانِ من مصدات عائلية لمنع رياح الشعر من التسلل عبر نوافذي, والذي سبقني إلى كتابته أبُ لم تصفُ له الحياة كثيراً, فاضطر لإعلان التوبة ذات ظروف صعبة, فكان طبيعياً وجود دواوين الشعر على رفوف مكتبة صغيرة في البيت وكان لنزار بينها مكان أثير.‏

ما زالت دفاتري القديمة المزينة بأشعاره, تشكل واحة أفيء إلى ظلالها كلما عصفت رياح الحياة بأشرعتي: تصورت حبكِ طفحاً بسيطاً على سطح جلدي أداويه بالماء أو بالكحول، وبررته باختلاف المناخ وعللته بانقلاب الفصول... أسترجع الآن حادثة تشبه ما وقع مع خالتي لكن بفارق ما, ذات يوم فتح أخي حقيبتي المدرسية – لعله توجس أمراً ما فيها – حين عثر على مبتغاه, هرع إلى والدي يسلمه ورقة نبشها من بين كتبي.. كانت ورقة بيضاء انتزعت من دفتر ذي شريط معدني - فآثار ذلك واضحة - كتب على سطورها: كتبت أحبك فوق جدار القمر، أحبك جداً كما لا أحبك يوماً بشر... لم يعنّفني أبي يومها, لكن لطالما تمنيت معرفة ذاك الزميل الذي دسها في حقيبتي, إذ كانت مدرستنا الثانوية مختلطة!‏

ما الذي فعله نزار قباني بأجيال ارتشفت أشعاره كما ارتشاف النحل لرحيق الزهر,فصاغت عسل أحاسيسهم من عبق الياسمين الدمشقي, ومن تدفق النوافير في باحة بيت عتيق! لا يمكن لأي عاقل إنكار الأثر الجميل الذي خلفته أشعار نزار قباني على أسلوب كتابة الشعر فكثر أتباع مدرسته والدائرون في فلك أسلوبه ولم تنجُ من ذلك أشعاري الأولى التي لو قرأتها الآن لشككت في كتابتي لها, فالأريج النزاري فيها طاغٍ, في سنتي الجامعية الثالثة صعدت إلى سطح البيت فجراً ورحت أكتب قصيدة عنونتها ب ( الحب كيف يكون ) ومنها: وداعاً يا أول امرأة خضتُ بحارها ولم أغرق, يا أول امرأة جمعت لها العمر طوقاً من فيروز أزرق... حبي لك مثل النهر يكون عميقاً هادئاً قليل الصخب يكون كالدّر في غور الأصداف مكنون مكنون.... لم يكن الخروج من فضاءات نزار قباني سهلاً وهي الفضاءات الحرة الآسرة, الحريرية الشرسة, الهادئة الصاخبة, وحيث الوقوف على شواطئ شعره يغريك بالغوص العميق, فما كان من سبيل أمامي للتخلص من شِباك نزار, سوى التوقف عن كتابة الشعر لزمن ما, حين عاودت ارتكاب الشعر أدركت أن تلك الخطوة كانت ضرورية.‏

قبل أن أودعكم أقول: كان بث القناة السورية – الوحيدة آنذاك – ينتهي ببرنامج غداً نلتقي , لا أذكر الآن اسم معدّه ومخرجه, لكن ذلك البرنامج شكّل لي محطة ليلية ساحرة خاصة وأنه يسدل ستائره بأشعار نزار التي سجلت بصوته, مترافقة بمشاهد طبيعية خلابة ونوارس تحلق عالياً, فأغلق كتبي الجامعية, ومثل مسافر يحط الرحال في محطة استراحة ليتمكن من مواصلة الطريق, كنت أبحر مع أشعار نزار, لأتمكن من متابعة السير نحو الفجر والغد الأفضل.‏

خلوداً لروحك نزار.. شكراً لأنك كنت وما زلت قطعة من أرواحنا.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية