|
نزار قباني 86 عاماً على الولادة.. الشعر قنديل أخضر لا ينطفئ ثقافة والصحيح أيضا أن الولادة كما قال هو، كانت مع الانقلاب الربيعي حيث تغير الدنيا ملامحها تخلع ثوبا لترتدي ثوبا آخر ربيعيا، وبالتأكيد ما كان لولا الثوب الذي جاء قبله. والصحيح أيضا أن ولادة نزار الحقيقية حملت معها ولادة أخرى وفصلا آخر وتجديدا للشعر العربي، ولادة نزار قباني أكثر من ولادة هي ولادة الشاعر الذي سيغير في مسار الشعر العربي ويشق طريقا لم يكن مرصوفا بالورود والأزاهير لكنه عطره بعطرها، نزار قباني أحدث انقلابا في مفهوم الشعر العربي لم يكتف بشرف التجربة الأولى (قالت لي السمراء) بل تابع حتى النهاية وما بين المجموعة الأولى والأخيرة- التي صدرت بعد رحيله بسنوات بينهما عطاء لا يمكن لأي جيل من الأجيال أن تعبره دون أن تتعطر به، بكلماته، بصوره، بلغته وأظن أن اثنين من عباقرة الأدب العربي في القرن العشرين هما محطة إلزامية لكل قارئ، أعني جبران خليل جبران، ونزار قباني، فهما الأكثر ولادة كل يوم فيما يقرأ لهما، فيما يطبع لهما عن الكتب تزويرا أو بغير ذلك.. احتفاؤنا بذكرى ولادة نزار قباني احتفاء بولادتنا نحن، احتفاء بالشعر كقنديل أخضر، وهنا أتذكر ذاك الصبي الذي علق في صحيفة محلية على جملة الشعر قنديل أخضر منذ فترة من الزمن وكتب مستهجنا ماذا يعني قنديل أخضر؟ بالتأكيد لأنه لم يسمع بكتاب نزار قباني (الشعر قنديل أخضر) وأصدر هذا الصبي مجموعة شعرية فيما بعد، ولا أدري إن كنت من الشعر الأعرج؟ على كل حال نزار شاعر لكل الأجيال، شاعر يحتفى به كل يوم، ويولد كل لحظة، ووقفتنا ليست إلا مد باب الوفاء لشاعر ندين له جميعا ونحتفي بإبداعه. «أبجدية الياسمين».. ترثي اللا شعر.. 1- أمام طوفان من »قصائد النثر« التي باتت موضة العصر، في لغتنا العربية، على يد قبيلة من »الشعراء« أو ممن يسمون أنفسهم «شعراء» تخلى الموهوبون منهم عن الشعر الحقيقي، ذي الوزن والقافية والروي والموسيقا، وهو مايمثل إرثنا الشعري المتواصل منذ الجاهلية حتى أواخر القرن الماضي، وانغمسوا في نظم شعر ليس كالمألوف من الشعر العربي، سموه، أو سماه لهم نقاد سيئو النية «شعراً منثوراً» أو طلقاً، أو مرسلاً. شعراء كبار، تحولوا من الشعر المقفى الذي برعوا فيه الى شعر مرسل معتمدين على نظرية غريبة المنشأ، هذه مبادؤها، كما أقدر: أولاً: طبيعة التطور فرضت شكلاً جديداً للشعر مختلفاً عن شكله في الماضي. ثانياً: تحطيم قيود الشعر كقيد الوزن والقافية، والتحرر منهما، لأن روح العصر تفترض مثل هذا التحرر عن لزوم مالايلزم، قياساً بتحرر الناس. ثالثاً: القصيدة الجديدة المنثورة موسيقاها الداخلية التي يشارك المتلقي في تذوقها، حسب رؤيته، وثقافته، وربما موهبته. رابعاً: الشعرالمرسل أوالمنثور نوع جديد من العطاء الشعري، يجب قوله واعتماده وهذا هو المهم. ولقد اعتمد الشعر المنثور اعتماداً حاسماً، فلم تعد تخلو دورية أوكتاب منه، وجرب فيه مجربون كثر، فملؤوا الصفحات، وانصرفوا إليه، وجاراهم كبار الشعراء، فاستغنوا عن الشعر الموزون المقفى، وصاروا ينظمون شعراً منثوراً، تعمدوا فيه الإبهام والغموض والغرابة، ومع ولادة القرن الجديد اختفى الشعر الموزون أو كاد!. 2- لماذا جنح الشعراء الكبار بخاصة إلى الشعر المرسل المنثور؟ أهم يسايرون طبيعة العصر، أم هم يستسهلون كتابة هذا النوع من »الشعر«؟ أحسب أن الأمرين وارد، فهم لا يريدون الكد في استحضار القوافي وأوزان الفراهيدي، اعتقاداً منهم أن طبيعة التطور فرضت النوع الجديد، وأن الشعر المنثور هو ابن الشعر المقفى، وأنهم ماداموا شعراء فإن الموسيقا الداخلية للكلمات التي يكتبون، تغني عن الوزن والقافية والروي والموسيقا المتوفرة، في الشعر المقفى، وأنهم بكتابة النوع الجديد يجعلون المتلقي في حالة مشاركة فعالة في »تذوق« خصائص القصيدة الجديدة، واستنباط موسيقاها، ادعاء علينا أن نصدقه دون مناقشة، لأن من العسير أن نفهم هؤلاء بأن الشعر هو غير هذا تماماً، هو وزن وقافية وروي موسيقا، وإرثنا الشعري العربي حافل بهذه الخصائص التي تجعلنا نحفظ الشعر المقفى عن ظهر قلب، ولايعلق في ذواكرنا شيء من «الشعر» الجديد. 3- في ديوانه الجديد الذي ظهر بعد وفاته بعشر سنوات، بإرادة من ابنتيه وابنه هدباء وزينب وعمر، طبعت قصائد المرحوم الشاعر الكبير نزار قباني عام 2008 تحت عنوان «أبجدية الياسمين» التي ضمت القصائد التي كتبها على علب الدواء التي كانوا يأتون بها إليه، وهو راقد في سرير مستشفى « سان توماس» في لندن، في السنة نفسها، بالإضافة إلى قصائد لم تنشر في ديوان من قبل، منها قصيدة كتبها بخط يده عام 1997، ككل قصائد الديوان الجديد، لها عنوان طويل غريب: «طعنوا العروبة في الظلام بخنجر فإذا هم بين اليهود.. يهود!» يتطرق فيها الشاعر الكبير إلى «الشعر الجديد» فيقول: مازال للشعر القديم نضارة أما الجديد فما هناك جديد!! لغة.. بلا لغة وجوق ضفادع وروائع ورقية ورعود هم يذبحون الشعر مثل دجاجة ويزورون.. وما هناك شهود رحل المغنون الكبار بشعرنا ضل الفرزدق من عشيرته ومات لبيد.. 4- ترى.. لماذا أحجم الشعراء الكبار، ولن أسميهم عن النظم بالوزن، هذه الأيام؟ الجميع مشاركون في جريمة نبذ الشعر الموزون إلى مايسمى »الشعر المنثور« أو الطلق أو المرسل، وماأرادوا من تسميات!. ثمة أسباب متعددة أهمها الاستسهال، فإن نظم الشعر وفق مخططات وقوالب موضوعة منذ القدم فيه صعوبة على محاولي كتابة الشعر الجديد، لايعرفها إلا من جربها، لكن الشعراء الكبار أنفسهم الذين يعتبرون الشعر سليقة وموهبة، تخلوا عن مواهبهم في سبيل الاستسهال من جهة، ولأنهم لم يعودوا يرون شعراً كالشعر المتوارث، على صفحات الصحف والمجلات من جهة أخرى، على أن الأمر، في تقديري، يعود إلى سبب آخر، وهو شيوع ترجمة الشعر الأجنبي بكتابة نثرية، حاكى محاولو الكتابة النسخ على منوالها، حتى طغى هذا النوع، وأوحى لكبار الشعراء أن ينسجوا على المنوال نفسه، دون كد في النظم وتكلف في رصد الكلمات ذات القافية الواحدة، هذا إذا أبعدنا فرضية التآمر على تراثنا الشعري الذي لامثيل لغزارته وقوته في شعر العالم كله. 5- إن الشعر هو الشعر، ولايمكن أن يكون نثراً، ولايجوز، وكذلك النثر الذي هو نثر، ولايمكن أن يكون شعراً، فلكل نوع خصائص، يلتزم الشاعر بما يخص الشعر، والناثر بما يخص النثر، وليذهب التطور إلى الجحيم، إن كان سبباً في خلط النوعين وعلى الشعراء أن يلتزموا بتراثهم، ففي هذا الالتزام تتجلى مواهبهم، وإذا ما ركبوا رؤوسهم وكتبوا نثراً، ادعوا أنه شعر، فالمقارنة بين شعر مقفى موزون وبين كتابة نثرية هي مقارنة الذهب بالتنك!. يقول نزار قباني في آخر قصيدة كتبها قبل أن يتوفاه الله، وهي القصيدة التي لم يضع لها عنواناً في ديوانه «أبجدية الياسمين»: أزف الشعر، منذ خمسين عاماً ليس سهلاً أن يصير المرء شاعره. هذه مهنة المجانين في الأرض. وطعم الجنون.. طعم باهره! لقد رحل آخر الشعراء، صاحب المهنة التي ورثها عن أبيه وهذا عن أبيه وهكذا.. إلى أول قصيدة عربية موزونة صاغها مجنون وشاعر عربي بطعم باهر!.
|