الموقف الأول يحمل دلالات ومعاني كثيرة منها: لأنه صادر عن دولة أوروبية تعد الحليف الأقوى للولايات المتحدة الأميركية وتبني سياسات الإدارة الأميركية السابقة وبالتالي سياسات الكيان الصهيوني، وما جرته تلك السياسات الحمقاء والخرقاء على المنطقة والعالم من كوارث وويلات ستدفع المنطقة والعالم ثمناً باهظاً لها لعقود قادمة، وعلى رأسها الجريمة الكبرى في احتلال العراق، وكذلك تبني سياسة العزل والعدوان التي مارستها الإدارة الأميركية السابقة تجاه القوى الفاعلة في المنطقة، وتجاهل حقيقة أن هذه القوى هي المؤثرة والفاعلة على الأرض وتحديد القرار السياسي للمنطقة.
والموقف الثاني يحمل دلالات لا تقل أهمية عن الموقف الأول حيث شاهد المواطن الأوروبي قبل غيره حجم المجازر الوحشية التي ارتكبتها آلة القتل والدمار الصهيونية في غزة، ولم يعد هناك مجال للشك بعدوانية ووحشية هذا الكيان والدلالة الأهم لزيارة الوفد البرلماني الأوروبي ومحادثاته مع قادة حماس في دمشق لتواكب مسيرات الاحتجاج التي خرجت في أوروبا تنديداً بالعدوان على غزة، ولتؤكد الحقيقة التي حاول الكثيرون التعمية عليها وهي أن حماس منتخبة شعبياً وديمقراطياً من الشعب الفلسطيني وبرنامجها يمثل إرادة الناخب الفلسطيني، وليست كما يزعم إرهابيو العصر في الكيان الصهيوني وعتاة الحرب في الإدارة الأميركية السابقة أنها حركة إرهابية. فالالتفاف الشعبي والصمود الاسطوري للشعب الفلسطيني في غزة وباقي الأراضي الفلسطينية المحتلة والتأييد العربي والدولي للحق الفلسطيني إبان العدوان على غزة كان نقطة تحول رئيسية في النظرة إلىقضايا الصراع في المنطقة وكشف زيف الادعاءات الكاذبة التي ساقتها الماكينة الإعلامية الصهيونية وانقلب السحر على الساحر.
التحول في الموقف الأوروبي والنظرة الأوروبية لقضايا المنطقة والذي تجلى في الفترة الأخيرة بعدة إجراءات وتوجهات شيء جيد، لكنه لا يكفي إن لم يترافق بمواقف وقرارات تدعم ذلك منها الضغط علىالكيان الصهيوني للانصياع إلى تنفيذ القرارات الدولية ذات الصلة تجاه المنطقة وأملنا ألا تكون طفرة عابرة.
ولابد من التأكيد أن الانزعاج الأميركي والصهيوني من هذه الخطوات الأوروبية تجاه المنطقة لم يكن بالغريب ولايبشر بخير في تغير النظرة الأميركية تجاه قضايا المنطقة مع العلم أن أكثر من مسؤول أميركي في الإدارية الأميركية لم يخف رغبته بالاتصال بحركات المقاومة في المنطقة ولو بطريقة مواربة كاعتراف هذه الحركات بالكيان الصهيوني.
الأهم من هذا وذاك أن صمود المقاومة اللبنانية متمثلة بحزب الله في 2006 وتحقيقها نصراً استراتيجياً قلب المعايير وأحبط المخططات وكذلك ما حققته المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حركة حماس ومن ورائها الشعب الفلسطيني والشعب العربي ابان عدوان غزة الأخير،واحتضان دول الممانعة لهذه الحركات كان العامل الأهم لتغير النظرة الأوروبية تجاه المنطقة ولكن هل يعي العرب هذه الحقيقة ويعملون على تطوير الموقف الأوروبي ومن ثم العالمي وحتى الأميركي تجاه قضايانا العادلة؟
وهناك أمر في غاية الأهمية وهو استخدام الأوروبيين نفوذهم والضغط على الكيان الصهيوني لاجباره على الانصياع للقرارات الدولية فمن دون هذا الضغط لا جدوى لأي تحرك أوروبي للعب دور أساسي في حل الصراع في المنطقة الحل الذي يضمن عودة الحقوق إلى أصحابها.
منذ سنتين وعندما قرر الشعب البريطاني معاقبة رئيس وزرائه السابق طوني بلير لانجرافه وراء السياسة الأميركية وخاصة في موضوع احتلال العراق والكذب والافتراء الذي مورس في اللعبة القذرة لذلك الغزو والمبررات التي سيقت كان أمل الرأي العام البريطاني الخروج من هذه الورطة وهذا المستنقع ووعدت الحكومة البريطانية الجديدة رأيها العام بذلك وقررت سحب قواتها إلا أنها ونتيجة للضغوط الأميركية الكبيرة التي مورست عدلت عن قرارها ما شكل صدمة كبرى لرأيها العام وللشعب العراقي وأضر بالمصداقية البريطانية مرة أخرى.
والآن وبالتأكيد لن تألو دوائر اللوبي الصهيوني إن كان في بريطانيا أو الولايات المتحدة وبتوجيه من قادة التطرف العالمي في الكيان الصهيوني جهداً في إحباط أي محاولة مثل التي أقدمت عليها الحكومة البريطانية في اتصالها مع حزب الله وحركة حماس وغيرهما، ويبقى الرهان على قدرة الحكومة البريطانية على الدفاع عن قرارها وإثبات أن هذه الخطوة هي نابعة من قناعة وليست تكتيكاً وتسجيل نقاط بسبب المتغيرات التي حصلت في المنطقة، ولابد من التذكير أن بريطانيا وسياساتها في القرن الماضي هي سبب ويلات هذه المنطقة ابتداءً من وعدها المشؤوم ومروراً بكل مواقفها المنحازة بشكل كامل للكيان الصهيوني.
أوروبا على المحك وسياستها الآن في الميزان فهل تأخذ دورها الطبيعي المتناسب مع حجمها وقوتها وجذورها الحضارية؟، هذا ماستفرزه الأشهر القادمة والكل أوروبياً وعربياً وعالمياً ينتظر ولادة هذا الدور، فهل تفعلها أوروبا؟.