التي جرى اسقاطها في مجريات الطوفان المدمر، الذي أخذ البلاد والعباد في سورية والمنطقة العربية إلى بحر من الصراعات الدينية المذهبية، التي لم يعرف تاريخنا العربي الحديث مثيلا لها، خصوصا أن العالم العربي بات متلقفا للانفتاح الكوني الذي يفتح مسامات العقل على النور الرؤيوي والتنوير النهضوي وفكر الآخر المختلف ، بدءا من العمل على احترام الرأي الآخر القائم على القول الكريم : «وجادلهم بالتي هي أحسن»، أضف إليه المثل القائل : «اختلاف الرأي لا يفسد في الود قضية».
القضية صعبة التفسير، حيث المطالب غير واضحة بل ملتبسة ومبطنة بمضامين الشر المكتوم، الذي أشعل البلاد العربية من الماء إلى الماء، ووضعها في دائرة الفوضى والجنون المنظم عن سابق تصور وتصميم، المعنون بالمطالبات الإصلاحية المنطلقة بسذاجة الشارع العربي المغلق على مفاهيم الولاء للسلطة الحاكمة، انطلاقاً من مخططات الصهيونية العالمية التي نفثت سمومها في شرايين الأمة المغلوبة على أمرها، المبتلية بوعد بلفور المشؤوم، الذي حمل الشعب العربي بمجمله مضامين الحركات الاستعمارية الجديدة والمدبرة في الخفاء، العاملة على شرذمة البلاد والعباد فرقا متناحرة إثنيا ومذهبيا، والهدف إسقاط قضية الصراع العربي - الإسرائيلي من الأذهان، حيث باتت شعارات النضال والمقاومة من أجل استعادة فلسطين، والقدس الشريف، وبيت لحم مهد السيد المسيح المحاصرة حالياً بالأسوار الإسرائيلية، ضرباً من المستحيلات.
إن ما نشهده وما شهدناه منذ عامين وأكثر، وما تمت تسميته بالثورات الربيعية، ما هو سوى فصل من فصول المؤامرة الصهيونية الكبرى، القائمة على تضليل الجماهير السذج في منطقتنا العربية، الذين طفحت حياتهم بالفقر والبؤس والمرض والأمية، فباتوا على جهوزية تامة لتلقف الشعارات التي ظنوها المخلص في ليلة ليلاء، وإذ هي تسونامي جديد أوقعهم في أتونه المدمر، في غفلة من الزمن القاهر، وهم لا يدرون ماذا يفعلون.
ترى لو كانوا يدرون أن تغيير الأنظمة في هذا الشرق ما هو سوى حبر على ورق، وأن السياسة الأميركية المعطوفة على الحركة الصهيونية الشيطانية والمتسلطة عالميا، هي المحرك والبوصلة التي تحدد اتجاهات الثورة، هل كانوا يفعلون؟ ثم هل كانوا على علم أن دماء الأبرياء من أبنائهم تذهب هدرا في معارك ضبابية، لا عدو فيها سوى الآخر، الذي هو الشقيق والصديق والجار والقريب، بل هو الشريك في الهوية والانتماء الوطني! وأن الثورة الحقيقية ليست تلك المغلفة بالفوضى التي تأكل الأخضر واليابس، وأن طموح المواطن إلى الاكتفاء المادي والمعيشي في ظل دولة ترعى شؤونه بالعدل والقسطاس هو أمر مشروع بالتفاهم والحوار.
ثم من قال إن تخريب بلد عربي كسورية، التي لم ترهق المواطن بالدين العام، ليس عملا عدوانيا؟ علما أنه كما هو معروف للقاصي والداني، أن سورية، على الرغم من أنها بلد مواجهة مع العدو الصهيوني، إلا أن نظامها قد عمل جاهدا وبكل الوسائل والإمكانيات المتوافرة لديه، منذ بداياته وطوال عقود، على توفير جميع مستلزمات الصمود الحياتية للناس، من استشفاء مجاني، ودراسة تربوية مجانية شاملة، واقتصاد ثابت، وأمن مستتب، وأمان يحسد عليه الشعب السوري، على الرغم من عدم امتلاك سورية للثروات النفطية والغازية، التي يصرف نتاجها في الدول العربية النفطية
على العائلات الحاكمة ونزواتهم الشخصية، وطعن سورية في الظهر وخيانة القضية الفلسطينية، التي من المفترض أن تكون قضية الأمة جمعاء، بالفعل لا بالقول.
ما الذي أنتجته الثورات الربيعية لتاريخه غير الدمار والخراب والتفتيت والتقسيم والشعوذة الدينية المذهبية؟ هل ما يجري في مصر وتونس حاليا من دساتير همايونية بأنفاس ديكتاتورية نظمت على أسس دينية مذهبية ترفض الآخر وتفعل ما تريد، هو العنوان المطلوب للحرية والديموقراطية؟ وهل انجراف الحكم المصري إلى التواطؤ مع الأميركي والصهيوني من أجل الحفاظ على المعاهدات مع العدو الصهيوني هو من أسس الثورات الربيعية وأهدافها القومية؟ وهل العمل على كبت الحريات العامة والخاصة، أي من ليس على مذهبنا وشريعتنا فهو كافر تجوز عليه اللعنة والحساب العسير، هو الغاية والهدف النضالي الجديد؟! وهل غض النظر عن نهب ثروات البلاد من قبل المستعمر الجديد كما يجري في ليبيا، إضافة إلى قتل الناس وتدمير المنشآت والمؤسسات الحكومية التي هي أصلا ملكا للشعب، واختطاف الناس الآمنة من بيوتها والذبح على الهوية، والعمل على تهجيرهم خارج الحدود، بعد تخريب مؤسساتهم الدينية كما يجري في سورية حاليا، هو من مبادئ ثورة الإصلاح والتغيير المطلوبة؟ وهل استفحال المد الديني المذهبي من لبنان إلى سورية فالعراق هو مطلب شعب هذه البلاد، أم هو خطة محكمة للتفتيت والتقسيم المفبرك المنظم؟.
بعد كل ما نشهده من حرب كونية منظمة لتفتيت العالم العربي والقضاء على القضية الفلسطينية وسورية الدولة المقاومة والصامدة، نجد أن التطاول على الآخر المختلف دينيا ومذهبيا وهو ابن الوطن، بحجة الإيهام أن الهدف هو الغيرة على تثبيت الدين الحنيف، ما هو سوى تطاول على الوطن، الذي جعلوه مسرحا بل غابة للوحوش الكاسرة التي بدأت تأكل بعضها بعضاً، حيث جعلوا الوطن أرضا رخوة سهلة الاختراق، وجعلوا كرامة الشعب معلقة على دخان المعابر، التي استبيحت من الأشرار، الذين لا هم لهم سوى تغليب الحقد الأعمى على الإدراك العقلي، حيث أصبحت استباحة المحظورات ومخالفة قوانين البلاد، والتطاول على النظام المسؤول هو الهدف الذي يؤدي بالبلاد إلى التفتيت والتهلكة التي أدخلت المنطقة العربية في سيرك بهلوانات أتقنوا التهريج وهم بالحقيقة لا يدرون ماذا يفعلون!!
على أبواب العام الجديد، أتمنى أن يبقى الدين لله والوطن للجميع، وأن تبقى الشريعة في حضن المؤمنين بالله، نبراس هدي ونور، «حيث لا إكراه في الدين»، «ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى»، ومن الأفضل على أدعياء التقوى الانتباه إلى أن الأميركي والصهيوني والغربي هم علة العلل في شرذمة الأمة، وأن العقل هو الحكم حين تشتد العاصفة، وأن العالم العربي بشعبه المؤمن بعروبته وقوميته وإيمانه الديني ليس سيركا لأحد، وليس مسرحا لتسونامي يخترعه البعض ويجرون الشعب لدفع الأثمان الباهظة، في الوقت الذي يتصرف البعض بثروات الوطن التي هي ملك شرعي للجميع، من أجل زرع التعصب والعنصرية البغيضة، التي هي نقيض الشرائع السماوية، والعقل المدبر الذي هو منحة الخالق العظيم لبني البشر.