وهو جامع ضخم يؤمه الزوار ويصلون داخله ويدعون ويتهجدون.. وقربه سوق ضخم مسقوف، يشبه سوق (الحميدية) في دمشق.. إلا أنه أحدث ومنظم جيداً وبه جميع أنواع المحال التجارية.. ولاحركة مرور آلية داخله..
إنه يغصّ بالناس أحياناً، الذين يزورون مرقد الامام الرضا، و(البازار) الملحق به.. المكان أشبه بحيّ مزدحم بالزوار والبيوت المفروشة..
ومن النادر أن ترى مشهدانياً يسافر إلى مكان بعيد دون أن يزور الجامع ويصلي ركعتين تبركاً ودعاء بأن يوفقه الله في سفره بشفاعة آل البيت..
من بين الأماكن التي زرتها في مشهد ، قصر الشاه، وهو قصر ضخم كان الشاه يقضي وقته فيه لدى زيارته لمشهد..
والشاه محمد رضا بهلوي، بنى عدة قصور في عدة مدن، من بينها بالطبع طهران العاصمة، وكان قصر مشهد واحداً من أبدعها، بالرخام الملوّن ومقابض الأبواب الذهبية، والحمامات الواسعة الفاخرة.. وغرف الضيوف بالأثاث المعشّق وغرف الطعام الواسعة للضيوف الكبار، أو المتوسطة لاستخدامات الشاه وأهل بيته..
تعرفت في مشهد على (شاهبور آغا) وهو أحد رجال الأعمال الناجحين، رجل في الخمسين من عمره متوسط القامة، أقرب إلى البدانة ، يميل إلى الصلع.. وهو مرح مضياف، وزوجته الجميلة (نوشان خانم) تفتح أسبوعياً صالونها الأدبي لتستقبل الأدباء والفنانين، حيث تدور الحوارات ويقرأ الشعر، وتحكى القصص.. وقد زرت الصالون أكثر من مرة، وتعرفت على (حيدر يغما) وهو شاعر إيراني معروف اكتشفت أنه صاغ الكثير من القصائد متغزّلاً بجمال (نوشان) دون أن يزعج ذلك شاهبور.. فهو يفاخر بجمال زوجته وقدرتها على مقارعة الشعراء وحفظ الشعر، بل وصوغ القصائد..
عندما دخلت بيت (شاهبور) لأول مرة، كان حيدر الذي ربما كان في نفس عمر شاهبور، بلباسه البسيط ولحيته الكثّة، يحفر في الأرض.. سألته:
- يبدو أنك تحب العمل في الأرض..
قال : - أنا ابن الأرض، أعشق العمل فيها، وأشعر أن عطاءها غير محدود..
قال شاهبور: - حيدر زرع بعض الأشجار هنا، وتلك الورود هو من زرعها ويعتني بها كلما زارنا..
وحين انفردت به، وقد استأذن شاهبور في الذهاب لموعد مهم سيعود منه لتناول الغداء معنا، سألته:- يقولون أنك مدلّه بهوى (نوشي)..
قال منفعلاً: - إنها الهواء الذي اتنسّمه..
- ألا ينزعج منك زوجها، وهو يعلم أنك عاشقها؟..
قال :- أتعرف الحب العذري الذي انتشر بينكم أنتم العرب؟ اشعر أنه أطبق علي منذ سنوات حين تعرفت عليها في صالونها الأدبي، وقد جئت ساخراً من فكرة وجود صالون يلتقي به الأدباء عند امرأة ثرية مثلها..
- وغيرت رأيك؟
- صعقتني، شعرت أنني ضئيل أمام شخصيتها المتألقة، إنها تعطيني المدّ الشعري، الذي أكدّ النقاد أنه ازداد ألقاً في السنوات الأخيرة..
شربنا الشاي لبعض الوقت، ثم عاد إلى معوله يحفر في الأرض وينسّق نباتاتها واشجارها الصغيرة..
واقتربت منه (نوشان) تدعوه للغذاء، فقد حضر شاهبور من اجتماعه السريع.. اختلج أمامها كطفل صغير واحمر وجهه وكأنما فاجأته..
همست لها : - ماذا فعلت له ياسيدتي؟ إنه مدلّه بحبك.. أترينه كيف ارتبك حين فاجأته بحضورك..؟
قالت ضاحكة: - حيدر شديد الحساسية، وهذه الحساسية المرهفة جعلت شعره شديد الرقة والسحر.. قبل أن أنسى، أنت مدعو مع من تشاء يوم الجمعة القادم، إلى مزرعتي في (نيشابور) ستكون فرصة لنتناول الغذاء مع مجموعة من النقاد والأدباء والفنانين.. إضافة إلى أنك ستزور ضريح عمر الخيام.. سينسّق معك شاهبور في وسيلة الرحلة المستخدمة..
كنت في استضافة أسرة (قوام الدين) وهو رجل سبعيني، زوج ابنته لمهندس ثري، وقد توفي الزوج فورثت الابنة مبالغ طائلة، وكانت تلك الأموال من أجل ابنها الوحيد، الذي صرّحت لبيت جده (أهل زوجها الراحل) أنها لن تتزوج وستتفرّغ لتربية الصبي.. كانت امرأة جميلة، تقرأ كثيراً، وكان الصبي هو محور حياتها.. ومن بين أفراد الأسرة شاب في الثامنة عشرة، كان هو الأصغر، حيوي، شديد الذكاء، كان يرافقني في أغلب زياراتي، وأحياناً تكون معه أخته الأرملة التي كانت تحب الأدب، ولها دراية بكل أنواع الابداع الإيراني..
استخدمت (عاتكة) وهو اسم المرأة الأرملة، الأموال التي وصلتها من تركة زوجها في تحسين وضع أهلها، فبنت لهم بيتاً ضخماً واسعاً، بحديقة، وفرشته بأثاث جيد، وعاشت معهم..
وكان أبوها يذكر ذلك كثيراً ( كل شيء هنا من عاتكة، كنت موظفاً صغيراً تقاعدت عن راتب ضئيل، ولكن ابنتي هذه، أدخلتنا في الحياة الجيدة..)
كانت زوجته (شمس) من عائلة معروفة، قدم بعض أفرادها حياتهم تمرداً على ظلم الشاه.. كانت امرأة شديدة الطيبة كما بدت لي، تحاول أن توفر لي الراحة، وتناديني (بولدي) دائماً.. تقدم لي الطعام وتصرّ على ترتيب سريري.. وكان الابن الأكبر لقوام الدين، معتل الصحة، مصاباً بالصرع، ورغم أنه تجاوز الأربعين من عمره، لم يزوجه والده، بسبب صحته كما كانت يقول..
وكان (حميد) يسرّ لي دائماً أن صحته ستصبح عادية ويتخلص من مرضه إذا زوّجه والده.. وقد حكيت لوالده ذلك أكثر من مرة.. ولكنه كان يرفض الفكرة.. فزواجه سيكون مكلفاً له، وحميد لايعمل..
كنت قد تعرّفت في الهند على ابنهم شهزاد الذي يدرس الطب في نفس الجامعة التي كنت أدرس فيها، وقد ساعدته في تأمين السكن بعدما سكن في شقتي لأكثر من ثلاثة أشهر، كما كنا نتعامل معاً كأخوين شقيقين، وحين عرف أنني سأذهب في رحلة طويلة من دلهي حتى موسكو بالبر، لأزيد من معارفي واختلط بالناس في هذه المناطق وأتعرف على حياتهم، طبائعهم وهي فرصة كبيرة لي وأنا اكتب إبداعاً ومقالات صحفية، أصرّ أن يستضيفني أهله في مشهد..
وهكذا هتف لهم شهزاد أنني قادم، وأن عليهم العناية بي، وأنه لن ينسى فضلي عليه أبداً.. وهكذا أقمت معهم نحو الشهر، كان شهراً غنياً بالمشاهد والمعارف والخبرات..