مفهوم الثقافة علمياً
وعليه يرى (دنيس كوش) أستاذ الأثنولوجيا في جامعة السوربون أنه لايمكن تحديد مسارات مفهوم الثقافة إلا ضمن السياق الاجتماعي، فالعلوم الاجتماعية ليست مستقلة عن السياقات الفكرية واللغوية، ولذلك فإن تفحص مفهوم الثقافة العلمي يفترض دراسة تطوره التاريخي ويرتبط مباشرة بالتكون الاجتماعي للفكرة الحديثة عن الثقافة، ويعود الفضل للبريطاني (تايلور) في إيجاد أول تعريف للمفهوم الاثنولوجي للثقافة والذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون، وكل القدرات والعادات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع.
ويتساءل (تايلور) في كتابه (الثقافة البدائية) المترجم إلى الفرنسية 1967 عن أصول الثقافة وآليات تطورها؟ ويعتبر أول عالم اثنولوجياً يعالج الظواهر الثقافية من منظور عام نسقي، وأول من حرص على دراسة الثقافة في المجتمعات بكل نماذجها وصورها المادية والرمزية وحتى الجسدية.
أما (فرانزبوا) فهو أول أنثربولوجي ينجز تحقيقات عن الطبيعة بملاحظته المباشرة والمطولة على الثقافات البدائية وبهذا يكون مبتدع الاثنوغرافيا إذ تبين له أن التنظيم الاجتماعي تحدده الثقافة أكثر مما يحدده المحيط وكان يرى أن مهمة الاثنولوجيا تبيان الصلة الرابطة بين الفرد وثقافته ويلح على «النسبية الثقافية» ويعتبرها مبدأ منهجياً، فلكل ثقافة أسلوب معين يعبر عن نفسه عبر اللسان والمعتقدات والعادات والفن أيضاً، من هنا كانت دعوته لاحترام الثقافات المختلفة لأن كل منها يعبر عن طريقة متفردة.
ثقافة أم حضارة؟
في كتابه (مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية) يؤكد الباحث (دنيس كوش) أن كلمة «حضارة» بقيت سائدة حتى مجيء (دور كايم) عام 1897 وهو ساهم بقوة في تخليص هذا المفهوم مما كان يتضمنه من المسلمات الإيديولوجية واقترح تأويلات للظواهر التي تعنيها العلوم الاجتماعية على أنها ثقافية.
على حين كان (مارسال موص) أكثر تصريحاً من سابقه, فبالنسبة إليه ليست حضارة شعب ما سوى مجموع ظواهره الاجتماعية، والكلام عن شعوب جاهلة أو من دون حضارة، أو شعوب طبيعية لاوجود له.
وحسب الباحثين في الثقافة فإن الجسد ذاته متأثر بفعل الثقافة وهي توؤل الطبيعة وتحولها وحتى الوظائف الحيوية تزودها بمعلوماتها، مثل الأكل والنوم والتزواج والوضع وحتى المشي والجري والسباحة، كل ممارسات الجسد تحدد بعمق كل ثقافة معينة وهوماتولى (مارسال موص) بيانه 1936 في دراساته (تقنيات الجسد) فنحن لانجلس ولانمشي بالطريقة ذاتها بل يختلف ذلك من ثقافة إلى أخرى، ولايمكن معاينة الطبيعة لدى الكائن البشري إلا وقد حولتها الثقافة.
اللسان ونقل الثقافة
يترابط اللسان والثقافة في علاقة تبعية متبادلة ومن بين وظائف اللسان نقل الثقافة، وهو مابينه (ليفي ستروس) صاحب المنهج التحليلي البينوي للأنثربولوجيا إذ أكد تعقد العلاقات بين اللغة والثقافة، فاللسان المستخدم في مجتمع ما، يعكس الثقافة العامة الخاصة بالسكان، واللغة جزء من الثقافة إذ إنها تمثل عنصراً من عناصرها.
وحسب (ستروس) يمكن اعتبار كل ثقافة مجموعة أنساق رمزية تتصدرها اللغة وقواعد التزواج والعلاقات الاقتصادية والفن والعلم والدين.
التثاقف
الاسم مبتدع منذ عام 1880 من قبل ج و. بوبل عالم الانثربولوجيا الأميركي، وهو مجموع الظواهر الناتجة من تماس موصول ومباشر بين مجموعات أفراد ذوي ثقافات مختلفة تؤدي إلى تغيرات في النماذج الثقافية الأولى الخاصة بإحدى المجموعتين أو كليهما.
و«الاستيعاب» هو طور التثاقف النهائي ويفترض بالنسبة إلى مجموعة ما، انتفاءً تاماً لثقافتها واستيطاناً كاملاً لثقافة المجموعة المهيمنة، ويختلف الانتشار عن التثاقف إذ من الممكن أن يحدث دون تماس موصول ومباشر من جهة، كما لايكون من جهة دون ثانية.
الاجتماعي والثقافي
يؤكد علماء الاجتماع أن الثقافي لايمكن أن يدرس بمعزل عن الاجتماعي وحسب (باستيد) فإن مختلف أطر العلاقات الاجتماعية يجب أن تدرس ضمن أطر العلاقات الاجتماعية وينبغي إعادة موضعة ظواهر التآلف الثقافي والتمازج والاستيعاب في أطر بنينتها أو إعادة بنينتها الاجتماعية، فالتثاقف ظاهرة اجتماعية كلية تمس كل مستويات الواقع الاجتماعي والثقافي، لذلك لايمكن أن ينحصر التغير الثقافي ماقبلياً ولاأفقياً ولا عمودياً بين المستويات المختلفة.
وإذا ما راعينا هذ المبدأ فسنكتشف أنه لا وجود بالمعنى الدقيق لثقافة مانحة وحسب، ولاثقافة متلقية فالتثاقف لايمكن أن يكون باتجاه واحد.
عولمة الثقافة
بتعبير «جان بيير» لاتؤدي الجماهيرية وإن انتشرت على نطاق عالمي إلى ثقافة عالمية، وعولمة الثقافة ليست قريبة التحقق لأن البشرية لم تتوقف عن إنتاج الاختلاف الثقافي، وإن كانت العولمة موجودة فهي عولمة أسواق الممتلكات المسماة ثقافية.
من جهته عالم الانثربولوجيا الهندي الأميركي (أرجون أبادوراي) يرى أن عولمة المبادلات الاقتصادية والاتصالية من شأنها أن تخلق تأليفات ثقافية جديدة ممكنة، إذ ليس من آثار العولمة تفقير الاختراع الثقافي وتوحيد شكل الفكر والممارسات بل هي تحفز التعبير عن أشكال غير مسبوقة من الخيال الجماعي وتبقى النسبية الثقافية والمركزية الإثنية لدى (كوش) باعتبارهما مبدأين منهجين ليسا متضامنيين بل متكاملان واستعمالهما يسمح للباحث بمقاربة جدلية المماثل والآخر، وجدلية الهوية والاختلاف، أي جدلية الثقافة والثقافات التي هي من أساس الدينامية الاجتماعية.