هذه اللجنة أدارت مؤخراً محرك تنفيذ مشروع إصلاح القطاع العام الاقتصادي، وعساه يكون محركاً قوياً، ولا يكون كغيره من مشاريع وبرامج الإصلاح السابقة، والتي لم يتسنّ لها البقاء على الرغم من الأهمية الكبيرة لإصلاح هذا القطاع الضخم بقدراته وإمكاناته، والذي يعاني من التآكل والتكلّس كثيراً، ومن أغلال أنظمة وقوانين ما تزال تقيّده وتحدّ من حركته ومرونته وصلاحياته، فيفقد الفرصة تلو الأخرى، إلى جانب معاناته أحياناً من سوء في الإدارة والأداء، ولكنه في أغلبه يمتاز بحنكة عالية وخبرةٍ كبيرة، في معرفة سبل الوصول إلى مرابع الفساد ودهاليزه، وابتكار طرائق النهب وأساليبه..!
عقدة المرونة والصلاحيات
هنا تتموضع العقبة الأساسية القاسية بمواجهة اللجنة التي تكتنفها الكثير من التحديات، إذ كيف ستمنح القطاع العام الاقتصادي المرونة الكافية، وتحرره من القيود ، فاللجنة ترمي إلى وضع خطط الإصلاح التي تتناسب وحاجة كل مؤسسة وإعطاء المرونة والصلاحيات اللازمة لإدارة هذا القطاع لتنظيم موارده واستثمارها بالشكل الأمثل - فكيف ذلك في الوقت الذي يبدي هذا القطاع كفاءة عالية بممارسة التجاوزات، رغم تلك القيود، فإلى أين سيصل في حال فكّها ومنحها المزيد من الحرية والمرونة ..؟!
ولكن مهما تبدو هذه المسألة شائكة ومعقّدة فلا بد من حلّها إن كنّا جادين بالخوض في هذه العملية إلى النهاية، إذ لا مناص من منح القطاع العام المرونة الكافية، والصلاحيات الواسعة في اتخاذ قراراته بما يضمن له حريته بحيث يتمكّن من تحقيق مصلحة العمل بسرعة وديناميكية وكفاءة اقتصادية توصله بالنهاية إلى تحقيق أفضل إنتاج، وأفضل تسويق وأرباح، وبالتالي أفضل النتائج.
القطاع العام الاقتصادي لن يستطيع الوصول إلى الحد الأعلى الممكن من الأرباح وتحقيق الكفاءة الاقتصادية إن لم يكن حراً .. مرناً .. وواسع الصلاحيات، فالحال لا يمشي إن احتاجت شركة من الشركات - مثلاً - قطعة غيار، أو آلة تطويرية، إن كانت هذه الشركة ستتبع الإجراءات المعمول بها حالياً، لجهة الإعلان عن مناقصة وانتظار من يتقدم ومن لا يتقدّم، ومن ثم دراسة العروض، وإرساء العرض، وإعطاء أمر المباشرة وإجراءات الشراء والتركيب .. فنكون بذلك قد خسرنا أشهراً وربما سنين ونحن متعطلون ننتظر هذا الروتين الذي -على أساس- يستهدف الدقة والنزاهة، وهو من حيث المبدأ هكذا فعلاً، ولكن في الحقيقة كلنا يعلم أنه أمام الكفاءة العالية بدهاليز الفساد لا الدقة تحصل، ولا النزاهة تتحقق، فتكون الدولة بذلك قد خسرت الوقت والمال معاً، وما فات من أرباح مُفترضة.
إنها مشكلة حقيقية لا بد من وضعها على المشرحة لعلاجها وحلها، وعلى الرغم من صعوبة الحل فهي ليست عصيّة عنه ، ولكن لا بدّ من الجرأة والتضحية.
مبدأ المشاركة بالأرباح
أمام هذا المشهد يمكن الحل بطرقٍ عديدة، منها - على سبيل المثال - اعتماد نظام مشاركة الإدارة والعاملين بالأرباح إلى جانب الرواتب، بحيث تخصص نسبة من الأرباح للإدارات العليا والوسطى وللعاملين، وأن تكون مخصصات مشجعة على العمل والإنتاج، شبيهة بالحوافز - مثلاً - من حيث الفكرة، على ألا تشبهها من حيث النتيجة، لتكون مجزية أكبر قدرٍ ممكن.
أما رواتب قادة القطاع العام فلم تعد تنفع بالشكل التي هي عليه، ولا بدّ من أن تتغيّر كليّاً بما يضمن قناعة ضمنيّة للمدير بها، والارتياح إليها لتكون كفيلة بسدّ الذرائع أمام الفاسدين، وحتى أمام التفكير بالفساد، فإن كان راتب المدير العام مليون ليرة في الشهر، فكلنا متأكدون أن الدولة لن تكون خاسرة في ذلك - اللهمّ إن اقتنع المدير وامتنع فعلياً عن الفساد - لأن أصغر مدير عام لا يقبل بتجاوزات إدارته بمثل هذا المبلغ (الزهيد) والذي لا يتعدّى / 12 / مليون ليرة سنوياً، أي بمعدّل 1500 دولار شهرياً.
إن حجم الفساد وأموال الدولة الضائعة جراء التجاوزات بالأسعار والتلاعب واللف والدوران، واستغلال الثغرات القانونية، أكبر من إنفاق هكذا رواتب عند أغلب المديريين العامين، فعسانا نصل إلى نتيجة إيجابية عندما تزداد رواتبهم إلى هذا الحد، ويوضع نظام يضبط مسار العمليات الشرائية والإنتاجية والتسويقية، وخلق نظام من الرقابة الذاتية في المؤسسة العامة بحيث يمنع أي أحد من أي تجاوز باعتبار أن الجميع شركاء في الأرباح، وكل من يتجاوز بليرة واحدة سيؤثّر سلباً على المجموع، فتكون الرقابة استباقية وجماعية تمنع أي أحد من التجاوز على أن تكون هناك إجراءات متاحة وفورية بحق كل من يحاول التورّط بهكذا مخالفات، فإن الدولة - عبر المؤسسة العامة - ربما تحقق بذلك على الأرجح المزيد من الأرباح، وتجني الكثير من الأموال الضائعة في ظلمات الفساد ودهاليزه.
وكذلك الأمر بالنسبة للإدارة الوسطى وما يليها، فإن لم تكن رواتبهم مجزية فلا ضمان لمصلحة المؤسسة العامة، ولا لنجاح مشروع الإصلاح، وأقل راتب من رواتب عمال القطاع العام الاقتصادي لا فائدة للإصلاح إن لم يؤمّن للعامل حياة كريمة، بالتزامن مع تقييم العاملين بنزاهة وإخلاص عبر سجلاتٍ ذات مصداقية عالية، ونعتقد بأنّ لجنة إصلاح القطاع العام الاقتصادي ومستشاريها غير عاجزين عن إيجاد الطريقة الكفيلة بذلك، وهذا أمر ضروري جداً لإنجاح المشروع، فلا يجوز أن يخضع العاملون لمبدأ المساواة، فهذه المساواة استناداً إلى الفئات (الأولى أو الثانية .. حتى الخامسة) بفوارقها المستندة على الشهادة وحدها غير مجدية على الإطلاق، وقد ساهمت كثيراً بتعطيل الإبداع والتنافس في المبادرات، و أثبتت التجارب ذلك، فالتقييم الأفضل هو الذي يكون مقسّماً على نسبٍ معيّنة، ويكون لفئة العامل نسبة ضعيفة فيه، والنسب الأخرى توزّع على الجهد، والإبداع .. والمبادرة .. والجدوى من الأداء، وبالمحصلة مدى قدرة هذا العامل أو ذاك على تحقيق مصلحة الجهة العامة، ومن هنا تأتي أهمية أن يكون التقييم محققاً للعدالة .. لا للمساواة.
ما الذي ستستفيده المؤسسة العامة من مدير عام يحمل شهادة الدكتوراه وهو فاشل في عمله .. في الوقت الذي يمكن لحامل شهادةٍ أقل أن يكون أكثر كفاءة وخبرة وقدرة على الإدارة والنجاح ..؟ لقد حان لنا الخروج من هذه العباءة التي تجعلنا مسحورين بأصحاب الشهادات العالية (مع الاحترام لهم) وتكون لهم الفرص والامتيازات لمجرّد أنهم يحملون تلك الشهادات، فصارت هي السلاح الذي يقارعون به بمعزلٍ عن الكفاءة والإبداع والمبادرة، ولكن هذا لا يعني إغفال أن يبقى حامل الشهادة العالية هو المفضّل بالتأكيد، ولكن شرط أن يكون ذا كفاءة وخبرة وقدرة على الإدارة والنجاح، إعمالاً للعدالة وللمصلحة العامة، وضماناً لنجاح مشروع الإصلاح أيضاً.
عملية إصلاح القطاع العام الاقتصادي ستكون أشبه بسلاح التدمير الشامل لجهة الفاعليّة، بحيث لا تدع شيئاً إلاّ وتطوله ويحدث فيه التأثير بشكلٍ كلّي وبلا استثناء، وإلاّ فسنبقى تحت رهن الحلول الترقيعيّة غير المجدية.
تحدّي التمويل
الحلول الشاملة تحتاج إلى تمويل ضخم، وهذه المشكلة لا ندري كم ستكون حجر عثرة في طريق الإصلاح ..؟ وهل هناك استعداد حقيقي لذلك..؟ وكيف..؟ أم إن التمويل الكافي ليس بالاعتبار الآن ..؟ إن كان الأمر كذلك فنحن أمام مخاطر جديّة تهدّد نجاح المشروع برمّته، ولكن إن كان الأمر كذلك فيمكن للجنة العليا لإصلاح القطاع العام الاقتصادي، والتي اختارت باجتماعها الأول أن تبدأ بإصلاح القطاع العام الصناعي، يمكنها اعتماد سياسة التصنيف حسب الأولوية لمؤسسات وشركات ومصانع ومنشآت هذا القطاع، من خلال وضع تسلسل عمودي رقمي، وتبدأ عمليات الإصلاح واحدة واحدة، وبالتسلسل، وكلما انتهت واحدة نبدأ بالتي تليها،تحاشياً للتورّط بعمليات إصلاحٍ أفقية واسعة نقف حيالها عاجزين عن التطبيق لعدم توافّر التمويل.
اللجنة حالياً رأت بخطتها أن يتم التركيز على تحديد الصعوبات التي يعاني منها القطاع الصناعي وتوصيفها وتحديد أسبابها واقتراح الحلول لمعالجتها، على التوازي مع وضع رؤى مستقبلية لتطوير عمل هذا القطاع تركز على توسيع قاعدته الاستثمارية وتعزيز الشراكة مع القطاع الخاص في إطار تحفيز العملية الإنتاجية ودعم الاقتصاد المحلي، وسوف تتولّى على المستوى الاستراتيجي اقتراح السياسات العامة المتعلّقة بإصلاح القطاع العام الاقتصادي ورفعها إلى مجلس الوزراء للنظر في إقرارها، واقتراح التشريعات الجديدة والتعديلات الواجب إدخالها على التشريعات النافذة ذات الصلة بالقطاع العام الاقتصادي، وإقرار الدراسات والأدلة الخاصة بإصلاح القطاع العام الاقتصادي وإعادة هيكلته.
الريادة لا تقبل الاستهانة
هذا التوجّه في الحقيقة يبدو مهماً، ويعطي حزمة من الأمل، غير أنه يبدو في بعض جوانبه شديد العموميّة، متخذاً المنحى الشمولي الأفقي، ما قد يوصلنا إلى طريقٍ مسدود، في حال عدم توافّر التمويل الذي لا يقبل الاستهانة ولا التأجيل، ولاسيما أن اللجنة باجتماعها الأول أعربت عن أنها تطمح إلى إعادة تأهيل القطاع العام الصناعي ليكون رائداً في العملية الإنتاجية وفاعلاً في مرحلة إعادة الإعمار، إضافة إلى وضع استراتيجية صناعية عامة تراعي الاستثمار الأمثل للموارد المحلية، وهذه توجّهات ستحصل تلقائياً عند إتمام عملية الإصلاح، التي نخشى أن تكون (العملية) قد بالغت قليلاً عند اشتراط تحقيق التكامل بين القطاعين العام والخاص في جميع المجالات الإنتاجية، وعلى الرغم من أنّ الاستئناس بهذا الأمر معقول إلى حدٍّ ما، على ألا يكون شرطاً، لأن القطاعين العام والخاص قد يتكاملان في مكان، ويتناقضان أو على الأقل يتنافسان بقوة في مكان آخر، ولذلك فإنّ هذا الأمر ربما يكون من الأجدى تركه للنتائج النهائية عند انتهاء عملية الإصلاح، ووقتها قد تحصل تحالفات تكامليّة في مواقع معينة بين القطاعين، وربما يُطلق العنان للمنافسة بينهما في مواقع أخرى.
أخيـــراً
المسيرة عسيرة، وليست بالهيّنة .. تحتاج إلى إرادة صلبة وجرأة ومال وتضحيات، فالتحديات كبيرة، وما ذكرناه ليس أكثر من أمثلة، فأمام اللجنة الكثير الكثير، أمامها البطالة المقنّعة وبالوقت نفسه النقص في الكوادر..! وأمامها طرائق التعيين والتوظيف، سواء التعيين الدائم على الملاك، أم عن طريق العقود، وكذلك التشابكات المالية، وإلى ما هنالك الكثير من التحديات التي لا نشك بأنها كلها قابلة للحل، عند التصميم على الجرأة .. والمزيد من الصبر.