غير أنه في الرواية يكاد يجمع كلا النوعين الإبداعيين في «ثلاثية» إبداعية تقوم على الشعر والقصص الريفية، وعلى إنشاء تراكيب جديدة منحوتة من نعنع الكلام، وحبق الجمل، ليُقدم نصه المختلف.
وبالعودة لرواية «حطابون في غابات النساء» الصادرة حديثاً عن دار الشرق بدمشق، فإنّ عبد الكريم لم يبتعد عمّا عوّد عليه قارئه في أكثر من رواية، ابتداءً من أولى رواياته «الطاحونة»، فالتشابيه التي يبدعها حسين عبد الكريم في مشاهده البصرية؛ ليس لأجل المقارنة وحسب، بمعنى أنه لم يذهب مذهب أسلافه لاسيما الشعراء العرب قبل الإسلام وبعده الذين كانت «المقارنة» منتهى بلاغتهم، لاسيما بين كائنات ظاهرة للعيان وملموسة بحواسه.
حسين عبد الكريم يذهب بما يكتبه من إبداع صوب نحت تراكيب مدهشة بهذا الجمع بين المحسوس والمجرد، أو في انزياح المفردات من سياقاتها، الأمر الذي يزيد في جماليات اللغة، أو في تفجيرها من الداخل لخلق حالة جمالية، وهي في رواية عبد الكريم تذهب صوب «مشهدية» بصرية، حتى وأن جاءت من أعماق المجرد، ولعلّ هذا أهم ما اشتغل عليه في جعله المجرد يقين الأصابع، لدرجة تبدو الفعالية الأدبية كامنة في هذا المنجز اللغوي الموزع كمساكب الفلاحين وتشكيلاتها من مزروعات متنوعة.
(حين لا يقدر البال على تأمل الإجابات؛ يحزن ويرسو على شاطئ الأفكار المهملة والمرتجعة كالقوارب الفقيرة خشباتها وقلوعها، أو كالرسائل التي يرسلها عاشقٌ من طرف واحد).
(الجسد من غير حبٍّ؛ مُشرد ومسكين في أزقة المفاتن وضراوة المرارات والتقشف والتعب).
يبقى الزمن في رواية (حطابون في غابات النساء) كما في معظم روايات حسين عبد الكريم، فإنه يبدأ تصاعدياً، ولكن هذا ما يشي به الظاهر وحسب، ذلك أن ثمة «مغزلية» بل قل حلزونية في حركة الزمن والأحداث، وإن كانت غير مرئية، فمرة تتساوق، وتالية تذهب بعيداً كالخطف خلفاً، ثم لتبدو فجأة الآن وهنا، مع ذلك فإن الأمر يبدأ على الشكل التالي:
يتم استحضار «الجد» جدٌّ ما، ستتناسل منه كل الحكايات والقصص، جد أقرب إلى المرجعية، تلك المرجعية، التي يقع على كاهلها تفسير ما يجري اليوم من أحداث وشرحها. جد - شيخ؛ تظهر له الكرامات والبراهين، ويقدم الحكم، وتُسمى باسمه، ويكون بصيراً ورائياً وعارفاً ومطلعاً بعالم الأسرار الخفية، منه البركة تأتي، وقد رسم دروب الخطوات، كان قد ألف الحواكير والكروم كما يؤلف الشاعر القصائد، ومن ثم ترك لمن يأتي بعده الدروب للخطوات واستخلاص النبيذ من العنب، وفي هذه الرواية؛ فإن الشيخ حاتم خطيب بلدة الدوير المترامية كخصر صبية في مقتبل صباها، ومن كثرة دروسه وظهورات رؤاه وتحققها، سُميت باسمه أكثر من قرية: حاتمية نبع العليق، حاتمية الجبل، حاتمية بيت عيسى، وحاتمية بيت مريم، حيث عاش الجد الكبير أياماً وليالياً، وحيث علّم وخطب وقرأ وكتب، وألهم الأرواح إلى ما فيه خير الوجدان والمعرفة، وترك أغصان تأملات وصدق لم تنطفئ ثمارها، بل تتوارثها أشجار العقول، والنفوس، وتتأثر بها حقول القرى وبساتين البلدات.
وهذه «الحاتميات» أي مكان أحداث الرواية، ومن وحي اسم المكان الذي يوحي بالكرم والوفرة والعطاء، سيكون أيضاً وارفاً بالحب من خلال شخصيات عاشقة، نساء مصنوعات من حبقٍ وتفاح، ورجال مخزنون ومليئون بوفرة الحب، والمسألة فقط بأشكال إعراب هذا العشق من خلال كل عاشق الذي عليه أن يصنع مفردات عشقه الخاصة به، وطريقة حبه، ودروبه في قطف الثمار اليانعة، البعض يكون حطاباً زاهياً، وآخر بالكاد يعرف أن يمسك المنجل، ومنهم من يتوه في مسالك الغابة، هنا كل الشخصيات عاشقة، وتحاول أن تسلك دروبها العشقية ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، لكنها أبداً لا تمل الحب. نساء مفعمات كما أشجار البساتين، ورجال كما الينابيع، كلٌّ يُعطي المكان خضرته التي تليق به.
من ميزات روايات حسين عبد الكريم أيضاً؛ أنها تهرب من الخواتيم، أو أنها روايات تهرب من خواتيمها، هي قصص تتداعى، أو أقرب إلى التداعي، من ذاكرة لا تملّ من فتح أدراجها، ذاكرة غالباً ما تنفرط عرانيسها وعناقيدها، حتى أن الكاتب لاتعنيه مسألة ذروة أو حبكة، وإنما هاجسه تلك المشاهد الذاكرية التي يسفحها على سفوح الجبال، سهوب ذاكرة ممتدة لأزمنة متعددة، ومشاهد بصرية تجمع بساتين وعشاقاً وأولياء صالحين، مشاهد تمتد وتمتد حتى آخر الأفق، حتى لم يعد بمقدور العين أن تميز شيئاً.
كتابة ذاكرية، تقول لك على حين غرة: لقد وصلنا إلى مفرق الضيعة، ألا تريد النزول ؟! تماماً كما سائق سيارة القرية الهرمة التي أنهكها المسير والتعب، وقد وصلت أسفل سفح القرية الجبلية، من هذه السهول البعيدة، سواء البعد المجازي أو الواقعي، أو من تلك السهول المترامية في الذاكرة ينحت حسين عبد الكريم شخصياته، ويوقظها من ثباتها؛ لتمشي الهوينى وبغنجٍ، وتعيد سرد الحكايا بكامل حزنها تارةً، وبحرارة توقها طوراً، وبكامل ونصاعة عشقها بكل الأحيان.
alraee67@gmail.com