التي اتسعت مساحتها في العقد الأخير الى حدود تنذر في امكان وقوع مخاطر وارباكات اجتماعية غير محمودة العواقب, حتى إن البعض بات يشبه طوابير البطالة بالقنبلة الموقوتة والتي قد تنفجر في حال عدم اتخاذ الخطط والبرامج الاقتصادية التي تقود الى إحداث إصلاح جذري.
وقبل الاتيان على الأرقام الأخيرة التي ترصد واقع البطالة في الوطن العربي ينبغي السؤال حول الأسباب التي أدت الى اتساع مساحة البطالة في بلدان تمتلك موارد مالية عملاقة وثروات طبيعية تحسدها عليها حتى بلدان الشمال الصناعي?!
الاجابة عن هذا السؤال قد تكون موضوع دراسة بحثية متكاملة أكثر منها مقالة صحفية سريعة وعاجلة, ومع ذلك يمكن القول وبكثافة لغوية إن أسباب هذه البطالة لم تأت بين ليلة وضحاها, وليس هناك سبب بعينه يمكن معالجته والاحاطة به, وإنما هناك مجموعة من الأسباب الذاتية والموضوعية التي اجتمعت وأدت الى حدوث تفاقم مشكلة البطالة, ومن الأسباب الموضوعية التي يمكن أن تشكل القاسم المشترك لمعظم البلدان العربية, هو غياب الاصلاح الاقتصادي حيث إن مسيرة النمو في الوطن العربي تتباطأ منذ أواسط الثمانينات من القرن الماضي, كما أن ازدياد عدد السكان وغياب خطط التنمية الشاملة ساعد على إحداث هوة كبيرة بين أعداد الذين يدخلون سنويا الى سوق العمل وبين الحاجة الفعلية من أعداد العمال.
فعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن اليوم ملاحظة حقيقية في أكثر من بلد عربي, وإن أعداد المشافي والمراكز الصحية والهيئات الطبية التي كانت تواضع في هذه المدينة أو تلك لم يزداد عددها سوى بصورة بطيئة وقليلة, أي في الوقت الذي كان عدد السكان يتزايد الى ضعفين أو ثلاثة خلال عقد أو عقدين من الزمن, كان من الملاحظ أن أعداد المشافي-على سبيل المثال -تبقى على حالها وهو ما يعني أنه من الاستحالة توفير فرص العمل للخريجين الجامعيين من أطباء وأصحاب اختصاصات وحتى الخريجين من المعاهد التمريضية والمخبرية, ومثلنا هذا إذا كان قد تمثل في قطاع محدد وبعينه فهو ينسحب أيضا وبتفاصيل أشد وضوحا في القطاعات الصناعية والخدمية وأيضا الزراعية.
وإذا كانت الهوة بين التنمية الشاملة وتزايد أعداد السكان أو الذين يدخلون في سوق العمل سنويا تمثل سببا أساسيا وجوهريا فإنه بهذه الحالة لا يمكن اغفال تخلف القوانين العربية المتعلقة بالعمل وعدم مواكبتها لمثيلاتها من القوانين في الدول الصناعية, فقانون صندوق البطالة ومع أنه من القوانين العالمية وتأخذ به الكثير من دول العالم منذ أواسط القرن الماضي فهو مازال بعيدا عن ساحة القوانين العربية, بل إن الذين يقومون على المؤسسات الرسمية العربية التي تخص العمال ومشكلاتهم هؤلاء والى الآن ليسوا في وارد التطرق الى حق باتت تفرضه ظروف العمل والتحولات التي شهدتها تكنولوجيا العمل في أعقاب الثورة الصناعية وتنامي العولمة واتساعها, ولهذا لا يمكن تبرئة القوانين العربية حتى من مسألة استمرار تفاقم الفائض من العمال, فتخلف هذه القوانين أسهم والى حد كبير في عرقلة الحراك العمالي بين الدول العربية ذاتها, فتطوير قوانين الهجرة للعمال العرب سيؤدي الى خلق دينامية عالية المستوى على الصعيد الانتاجي.
الأرقام الأخيرة التي صدرت عن خبراء في الاقتصاد خلال المنتدى الاقتصادي الذي عقد في الدوحة خلال أيار الماضي تقول: إن الدول العربية ملزمة ولغاية عام 2020 بتأمين 80 مليون فرصة عمل, وبالمناسبة هذا الرقم الأخير يعني أنه في حال تم تأمين هذه الفرص فذلك لا يعني القضاء على نسب البطالة الحالية وإنما الحفاط على مستوياتها الحالية لا أكثر, وإذا كانت الأرقام الرسمية تقول: إن نسبة البطالة العربية في الوقت الحالي تتراوح ما بين 25و30 بالمئة, فذلك يعني أنه في حال عدم تأمين 80 مليون فرصة عمل, فإن نسبة العاملين قد تصل من 40 الى 50 بالمئة ما يعني فعلا أنها قنبلة أكثر من مدوية.
ولأن البطالة هي أخطر مشكلة يواجهها الوطن العربي في الوقت الحاضر فإن المواجهة الناجمة لهذه الآفة تستلزم اعتماد الإصلاح الاقتصادي الجذري, وحقيقة في حال عدم قيام القيادة السياسية العربية في صوغ سياسة اقتصادية ذات فاعلية سريعة فإن ذلك سيقود الى حدوث تململ شعبي واحتجاجات في الشارع العربي, وبوابة الإصلاح وإن كانت بعض بواباتها تبدأ من ضرورة جذب التكنولوجيا وتوطينها وبما يواكب التطور التعليمي, فإن ثمة ضرورة بالمقابل الى توطين هذه التكنولوجيا بما ينسجم والتوزع السكاني في الريف والمدينة.
والأمر الذي يدفعنا الى مثل هذا الكلام أن اتساع الهوة بين القرية والمدينة ساهم والى حد كبير في نزوح العمالة من الريف الى المدينة والخلل في هذا الجانب-مثلما سبق وذكرنا-أن عمليات التنمية في البلدان العربية لم تتميز بالشمولية, ففي الوقت الذي كانت تتوجه فيه الأنظار والخطط الى المدن سواء على صعيد الخدمات أو حتى توفير فرص العمل, فإن الريف كان مهملا, فعدم خلق التكامل بين الريف والمدينة دفع بقسم كبير من العمالة الى قطاعات إنتاجية هامشية أو الى طابور العاطلين عن العمل أو الى بطالة مقنعة في المؤسسات الحكومية.
وبالمناسبة حين وضعنا توطين التكنولوجيا وجذبها على رأس الأولويات, فليس ذلك إلا لأن جذب الرساميل العربية المهاجرة مرهون في إحداث المنشآت الصناعية والزراعية العملاقة والتي تقوم على محاكاة مثيلاتهافي دول الشمال الصناعية, وكذلك فإن إحجام رؤوس الأموال العربية المهاجرة من العودة الى موطنها للقيام بمشروعات صناعية وزراعية يعود في جوهره الى هيمنة الحكومات على المشاريع الكبرى, ولعل مثل هذا السبب هو ما دفع في السنوات الأخيرة الى جعل غالبية البلدان العربية تنادي باقتصاد السوق وفي منح القطاع الخاص الدور الريادي في قيادة الاقتصاد الوطني, ولكن حتى لو كانت هناك دعوات جادة للمضي باتجاه اقتصاد السوق بهدف جذب الاستثمارات المهاجرة ومنح القطاع الخاص المزيد في المزايا والتسهيلات, فإن ذلك لن يكون كافيا دون إحداث تعديلات جوهرية في القوانين والتشريعات المتعلقة بالعمل أو بشروط الاستثمار.
فحسب الكثير من الاجتهادات التي صدرت عن اقتصاديين عرب, فإن البنية التشريعية والقانونية كانت تشكل سببا طاردا للاستثمار, وربما هذا الأمر قد أدى الى نزيف نحو 1400 مليار دولار لغاية عام .2003
وباعتقادنا أنه فيما لو تم رصد هذا الرقم العملاق في مشروعات استثمارية عربية لأمكن ذلك خلق فرص عمل تزيد عن حاجة أسواق العمل العربية.
وفي كل الأحوال, فإن فرصة إعادة النظر في حقيقة الواقع الحالي ما زالت ممكنة ومتاحة...ولكن على العرب الإدراك أنه آن الأوان للاستيقاظ من سبات طال أمده.