و كانت بسطات الأرصفة قد شهدت تجاذبات متعددة بين القرارات التي كانت تضع هذه الظاهرة في سلم الممنوعات، باعتبار أن البسطات مرتبطة مباشرة بحقوق واحتياجات المارة وأصحاب المحال والبسطات، جعلت هذه الحقوق تتعرض للانتهاك من وجهة نظر الدولة بطرق خفية غالبا, ومعلنة في بعض الأحيان ومن جانب آخر، فالتطبيق العملي لمكافحة البطالة ما زال ينتظره المواطن بفارغ الصبر ليرى جوهره الحقيقي على أرض الواقع.
محاولة احتواء
حتى تاريخ 10-3-2004 لم يكن هناك أي حل لظاهرة بسطات الأرصفة، حيث قامت محافظة دمشق بتخصيص بضعة أماكن محددة تكون بمثابة احتواء لهذه الظاهرة، وليشكل ذلك صونا لحركة المارة التي خصصت الأرصفة لهم، وحتى لا يشعر أصحاب المحال التجارية بالغبن من دفعهم لمبالغ ضريبية كبيرة في وقت تأتي بسطة صغيرة لتأخذ البقية الباقية من مرابحهم.
وتم فعلا تحديد سوق الجمعة في منطقة الزاهرة الجديدة وسوق يوم الثلاثاء بمنطقة برزة، ولكن بعد بضعة أسابيع عاد كل شيء إلى سابق عهده وعادت البسطات للتموضع العشوائي بعيداً عن تحديد أماكن مخصصة تصبح مع الزمن مقصدا لأصحاب الدخل المحدود بشكل أو بآخر، وذلك أسوة بالكثير من عواصم العالم ومدنه الكبرى، حيث يتم تخصيص يوم في الأسبوع حسب العطلة الأسبوعية، اذ يتم قطع طريق كامل من مرور السيارات لتفترشه البسطات،
ووصلت البسطات لدرجة غطت معها أكثر من 90% من مساحة بعض الأرصفة الرئيسية في دمشق على سبيل المثال لاالحصر كما هو الحال في 172 بسطة منتشرة على طول رصيف كلية الحقوق والمصرف العقاري و185 بسطة أخرى ممتدة أمام معهد الآثار والمتاحف (رصيف تمثال صلاح الدين أمام قلعة دمشق) 210 بسطات من جسر فكتوريا وصولاً إلى الحميدية والبقية انتشرت على أرصفة الأزقة والحارات والشوارع الرئيسية ورأسمالهم شبك معدني لصف البضاعة عليه مع غطاء مناسب يقيه حر الشمس ليصبح لدى صاحب البسطة شبه منفذ صغير يحجزه فوق منطقة محددة من الرصيف لتصبح مع الوقت بمثابة حق مكتسب له.
والسلع المعروضة على تلك البسطات ليس لزاماً عليها أي مواصفات دقيقة للبضاعة لأن معظمها مهرب من ألبسة وأحذية رياضية وعادية إلى الكهربائيات وذواكر الحاسوب ومستلزمات الهاتف العادي والمحمول وصولاً إلى تعبئة الوحدات وأوراق اليانصيب وبطاقة امسح واربح وبيع وتصليح الساعات والإكسسوارات والعطور بأنواعها، تدني الأسعار هو الشعار والقاعدة الذهبية لعملية البيع والشراء عبارة استباقية (إن القطعة التي تباع لا تبدل ولا ترد).
اليوم وبعد لعبة القط والفأر مع البلدية استطاع أصحاب البسطات الحصول على مغنم كبير، فبعد أن كانوا من المغضوب عليهم جعلتهم البلدية مؤخراً شرعيين.
ووصف وزير الاقتصاد والتجارة عمل البسطات بالشريف وقال لامانع من أن تكون الحكومة رحيمة في التعامل مع أصحاب البسطات طالما أنهم لايرتكبون إثماً بتأمين فرص عمل لهم ولذويهم دون تحميل الدولة أي تبعات، وذهب لأبعد من ذلك حيث شكل قنوات تواصل مع أصحاب البسطات وشجعهم على الابقاء على أسعارهم رخيصة وعدم بيع أي بضائع مخالفة، مع عدم اخفاء استغرابه من حجم البضائع المخالفة للمواصفات والمقاييس الموجودة في السوق المحلية.
وتطرق الوزير إلى بعض الحلول التي يتم تداولها في الحكومة لجعل ظاهرة البسطات تتجه في الاتجاه الصحيح عبر تخصيص الدولة لمساحات محددة لإنشاء بازارات في أطراف المدن ليقوموا بعملهم فيها ضمن رقابة محددة للسعر والجودة.
المحافظة قامت بدورها
يرى المهندس جمال حبايب مدير شؤون الأملاك في محافظة دمشق أن المحافظة قامت بدورها من خلال تخصيص عدد من المناطق في مدينة دمشق لعمل أصحاب البسطات مثل منطقة ركن الدين «شارع أسد الدين كيكيه- سوق الخضرة» الشاغور «توسع الزاهرة جانب حديقة الزاهرة- شارع القاهرة الموازي لابن عساكر» الميدان «زاهرة قديمة خلف مكتب المختار- ميدان قاعة خلف جامع سفيان الثوري- التضامن مقابل جامع الزبير جانب مستوصف التضامن» برزة «سوق الثلاثاء مقابل سوق الخضرة- شارع أسد بن فرات خلف صالة الحنبلي» إضافة إلى أن المحافظة تقوم بدورها من خلال تسيير الدوريات المعنية بشكل مستمر لمتابعة إشغال الأرصفة والأماكن العامة.
وأوضح مصدر آخر في المحافظة أن معظم الإجراءات المتخذة عبارة عن إجراءات آنية ومؤقتة و لا تتعدى كونها حلولاً ترقيعية تزيد المشكلة تفاقما مع مرور الوقت, وأن الحل لابد أن يكون من خلال التنسيق والتعاون مع محافظة ريف دمشق لقدرتها على تأمين الأراضي والمساحات اللازمة لإحداث عدد من الأسواق الشعبية وطرحها للاستثمار من قبل الوحدات الإدارية ولاسيما أن قانون الإدارة المحلية الجديد شجع المجالس المحلية على إقامة مشاريع خاصة بها, ودعم المجتمع المحلي إضافة إلى فتح الباب أمام القطاع الخاص للاستثمار في هذا المجال, كما لفت إلى أنه وفي السياق نفسه هناك مقترحات في المحافظة لجعل سوق الحميدية يوم الجمعة «يوم العطلة الأسبوعية» من الصباح وحتى المساء, سوقاً لبيع الكتب ولم يُتخذ قرار بذلك, رغم عرضه لأكثر من مرة على المكتب التنفيذي في المحافظة.
و في جولة «للثورة» تبين أن أبرز الأماكن التي التزمت الخطة كانت في سوق الحميدية وسوق تمثال صلاح الدين فقط، ويبدو أن البقية لم تقتنع بعد بالقرار الصادر عن محافظة دمشق لاعتبارات عدة أبرزها أن القرار الذي يتم صدوره في أي اتجاه عادة إذا لم تتم متابعته أو متابعة آليات تنفيذه فيبقى حبراً على ورق، مما جعل ثقافة الالتزام بما يتم تعميمه من قرارات عملية مفقودة وهذا لا يتوقف على الظاهرة فقط بل ينسحب على الكثير من الاتجاهات والقضايا.
العمولة: 2500 ليرة
محمد إدريس (23 عاماً) وهو بائع بسطة أحذية أمام باب كلية الحقوق رأى أن عملهم ليس سهلاً حيث يبقون في الشارع 14-16 ساعة من أجل مبلغ بسيط، وقال بائع آخر بجانبه أن البسطات ليست عشوائية كما يعتقد البعض فهناك مجموعة شبان تتحكم بكل منطقة وتفرض على كل بائع مبلغاً يتراوح بين ال 500-2500 ل.س حسب التقييم الذي يجرونه للبائع، وإلا فلن يستطيع أن يبيع بقرش واحد، ثم أضاف بلغة حاسمة متحدية: أتحدى أي شخص عادي أن يأتي ويبيع على هواه.
وقال فادي كوسا مواطن: كلما أردت الدخول إلى المصرف العقاري المحاذي لكلية الحقوق يجب أن أستسمح بائع البسطة الذي يسد الممر هناك أن يبعد طاولته هو وزميله قليلاً لأتمكن من الدخول إلى المصرف؟؟!
فرص عمل مؤقتة
يرى المحلل الاقتصادي الدكتور خلدون الحامض كلية الاقتصاد جامعة دمشق أن البسطات حلت مشكلة عدم وجود سيولة نقدية للكثيرين للانطلاق بمشروع يدر عليهم بعض المرابح نظراً للحاجة إلى وجود رأسمال معين للبدء بأي مشروع، لكن بحالة البسطات فالانطلاقة لا تحتاج لأكثر من حفنة صغيرة من المال لشراء بضاعة بكميات قليلة لا يحتاج معها لأي ضرائب أو أجرة محل تجاري أملاً بتوسيع الدائرة التجارية شيئاً فشيئاً.
وهنا يشعر هذا التويجر الصغير (صاحب البسطة) أنه من جهة أخرى حمى نفسه من الحاجة للدخول بمتاهة الاقتراض ومد اليد إلى البنوك التي لاتعطي قرشاً إلا وتكبل المقترض بالقيود، ناهيك عن النسب المئوية المرتفعة التي يتم استجرارها كأرباح للمصرف من المقترض.
البسطات أسواق شعبية
من جانبه بين راتب عدس نائب رئيس المكتب التنفيذي في محافظة ريف دمشق أن المحافظة يمكن أن تعمل على تخصيص الأماكن المناسبة لتجميع هذه البسطات في أسواق شعبية قادرة على جذب البسطات المنتشرة بشكل عشوائي ومخالف, علماً أن هناك الكثير من الأماكن الصالحة لهذه الغاية مثل منطقة غرب مخيم اليرموك.
وأشار العدس إلى أن قيام مثل هذه الأسواق في المناطق التابعة لمحافظة ريف دمشق سيكون غير مجدٍ لأن معظم البضائع والسلع التي تباع في هذه البسطات هي من السلع الرخيصة والتي لا تتحمل نفقات أجور النقل والمواصلات والمزيد من الوقت والجهد الذي يتطلبه الوصول إلى هذه الأسواق في مناطق الريف.
وأشار العدس إلى أن العديد من الأسواق في محافظة الريف مثل أسواق الأيام «سوق الجمعة- سوق السبت..الخ» إضافة إلى عدد من الأسواق المستمرة على مدار الأسبوع والتي تخدم المناطق الموجودة فيها, وأن المكتب التنفيذي في المحافظة طلب من البلديات ضرورة إعلام المحافظ بجميع المساحات الفارغة ليصار إلى إشغالها من قبل أصحاب البسطات والأكشاك.
وأخيراً:
من المهم التعامل مع هذه الظاهرة ودراستها بشكل موضوعي وملامسة مدلولاتها التي عكست حجم البطالة ورغبة الكثير من العاطلين عن العمل في إيجاد فرصة لكسب العيش والرزق, عبر البحث عن الحلول المناسبة والجذرية لهذه الظاهرة وربما يكون ذلك بدراسة إمكانية إحداث أسواق شعبية في أماكن قادرة على جذب العاملين في هذه المهنة «البسطات» وبما يُتيح للجهات الرسمية مراجعة هذه الأسواق وضبط أسعارها ومتابعة سلامة المنتجات المعروضة فيها، والاستفادة من بعض الرسوم البسيطة لهذه البسطات لتغطية النفقات المترتبة على تأمين الخدمات الأساسية والضرورية لهذه الأسواق من نظافة وحماية و تحويل الحل الجذري لظاهرة البسطات الذي ينحو بهذ الاتجاه منذ زمن بعيد دون تحويل مفاعيله ليتم تنفيذها على أرض الواقع بشكل ملموس