وهو الميال بطبعه وشخصه إلى التواضع، إذ لا يستخدم تلك الدال الساحرة التي تسبق الاسم متبوعة بنقطة، ليتباهى بأنه (الدكتور فلان)، مثلما يفعل من في نفوسهم وهن، مكتفيا بنصوصه التواقة إلى قارئ محليّ يستوعب لغته الخاصة، القاسية الصريحة الجارحة اللا متعالية: “عامية تنضح بالشرور”، وهذا لا يعني أنه يكتب بلغة الغوغاء والدهماء، بل يشتغل على اللغة، كنحات معانٍ، يحاول تفصيح العامية و يوظف منها ما هو قريب إلى فصحى المتعالمين، و التعدد اللغوي من سمات الروائي والباحث الحبيب الدائم ربي، المتمرد على سلطة اللغة وسلطة المروي.
في روايته “زريعة البلاد”، يتحدث التاقي إلى المعزين - مصدوما- عن موت والده العجوز، ولا يخفى على القارئ منذ اللحظات الأولى أن الراوي (الكاتب؟) يلجأ إلى التضليل السردي و التثغير، فالأب سالم السلومي انتقل من بلدة الشعاب ليستقر في البنورية، و يطغى على المحكي الأفعال الماضية، والسارد/الراوي يكسّر خطية السرد، فيتداخل الزمن الحاضر و الماضي، وكما يقال فالرثاء مدح بصيغة الماضي، إنها سيرة رجل أقرب إلى الأسطورة، تتأرجح بين الغياب والحضور.. السلومي لم يستطع الاندماج مع المدينة، فارتكن إلى غربته الجوانية.. بيد أن الحكاية /الحكايات تتأبى على القارئ، الباحث عن الحقيقة، فتتلون مع المخيال الشعبي و الرواة المتحاملين، ويبدو أن حكاية ذهاب السلومي وابنه التاقي إلى الرباط ولقائه بالسلطان ملفقة، والسبب غناه المفاجئ بعد ذلك اللقاء، ورغم البؤس المرير نصطدم بسخرية سوداء، وهذا ليس بغريب عن الفضاءات البدوية و بسطائها، وهي سخرية حكيمة. فأين الحقيقة عند رواة المد والجزر، الهدم والبناء.. راوٍ يسرد وقائع، وآخر ينفي وثالث يكذب كل ما حدث؟
والحديث عن الغنى يجر دفة السرد ناحية حكاية الصندوقين الواقعين من الطائرة الفرنسية، أحدهما كبير معدني، وآخر كرتوني صغير كان من نصيب السلومي، فتربص به ثلاثة شبان من القرية للاستيلاء عليه، بيد أنهم تراجعوا خشية أن يكون مسلحا، وهو المحارب القديم، والصندوق الكبير اجتمع حوله رجال السلطة وكبار البلدتين المتجاورين و كذلك العوام من أجل الظفر بنصيب من الغنيمة، وفي ما يشبه الاحتفال. لكنهم فوجئوا بأن الكنز لم يكن غير فضلات بطون الفرنسيين، وقد لمعت الفأس التي ستفتح الصندوق، ورشت بماء الورد، بينما السلومي ظفر بحذاء جديد، وفي هذا الفصل وظف السارد تقنية السرد المتوازي.
تعرض البلدة للخراب والنهب بعد القحط، دفع السلومي إلى هجر أرض الأجداد مهزوما، وتسترسل الحكايا المتداخلة عن بطولاته، ويتمرد الكاتب -ببراعة- على سلطة الصوت الوحيد، يفضح نفاق المعزين، الحاسدين الذين كانوا يتعقبونه -من قبل-، و كانوا يراقبونه من المقهى المجاور للبيت، و أشاعوا أن هجرته القروية كانت بسبب ابنته التي أنجبت لقيطا، وهو الذي عاد من الحرب العالمية الكبرى بساق معطوبة، بعد أن يئس إخوته من عودته، فاقتسموا التركة بينهم دونه، بعد موت الوالدين في غيابه.. استقر في كوخ حقير، وامتهن مهنا هامشية، وتجسد الأمل في حياة كريمة في ابنه التاقي المُجدّ في دراسته عكس ابنه البكر العيدي.
ومع الجنازة تدفقت حكايات أخرى عن الأب المبغوض من أبنائه، فلم يسلم حتى من كراهية الحفيدة الصغيرة.
في منتصف الرواية يلجأ الكاتب إلى “تمارين تطبيقية ( لاختبار البلادة)”، وهو نوع من التهكم من التنظير الروائي أو الميتا النص، حيث يلجأ إليه روائي يلوذ بالتجريب مخفيا عجزه عن تشييد معمار روائي يشد القارئ من ألفه إلى يائه، دون أن يحس بالضجر. وضع الكاتب أسئلة مستفزة تثير حفيظة القارئ مع بهارات سردية(شتائم) تحببا.. على عادة ظرفاء القرية، ويدعوه للمشاركة في الكتابة الثانية للرواية(هل تحتمل الرواية إعادة الكتابة ؟)، وفي الفصل الموالي يقر السارد أن ما سبق كان من وضع التاقي، ووجهه إلى تلاميذه. هذا الأخير يكذب كل ما ورد من تحامل وتشويه لسمعة آل السلومي وسيرتهم في الفصول السابقة، ويتسلم زمام السرد بضمير المتكلم.
يمكننا أن نعتبر أن موت السلومي موت ثان/بيولوجي، أما موته الأول/الرمزي كان عند مغادرته القرية ذليلا، كسير القلب، فباع الأرض- الرديف للعرض عن الفلاح- ليستقر في البنورية، ويعيش بداوته في البيت الجديد، يمعن في الخيال، ويربك ضيوفه القرويين بهلوساته، و جعل الدار “مسقطا ثانيا للقدم والرأس”.. كان يحيا وهم البلدة بعيدا عنها، يطلق مسمياتها على أرجاء البيت، ويحس القارئ أن هجرة العيدي ليست بنفس اللوعة.
وكما برع الكاتب في تطريز حكاياه، مكسرا الزمن، مفتتا السرد، نتلصص على أرجاء البيت، بعيون المعزين وبفضولهم وحسدهم أيضا. وفي فصل لاحق، يميط الحبيب الدائم ربي اللثام عن عنوان الرواية، فـ”زريعة البلاد” يقصد بها نساء البلدة الولادات، “ فالواحدة منهن تجر وراءها “سرسوبا “(سربا) من الأولاد وهي لاتزال بعد طفلة”، أما زوجة سالم فلم تنجب غير التاقي وزهوة والعيدي، والرواية تنحاز إلى التاقي، الذي يعتبر امتدادا لأبيه، وإن كان نسب ابنته مشكوك فيه مثل أمها، (وكأن الكاتب يدينه لأنه ابتعد عن السماء الأولى)، ثم يتطرق إلى إشكالية السلطة وعلاقتها الجدلية بالأوضاع الاجتماعية المتردية، فمن هاجروا إلى المدينة عادوا ليفرضوا هيبتهم وبطشهم على القرية مثل علواش، الذي سيتآمر مع التاقي وسلوم ضد العيدي بعد أن ضبطه مع زوجته الشابة، (يمكن أن نعتبرها معادلا موضوعيا للسلطة، والعيدي اغتصبها، مثلما فعل زوجها، و الشاب القروي أهانه بفعلة زوجته لرد اعتباره الشخصي ولو نفسيا).
ويختم الدائم ربي روايته الماكرة، عن طريق السرد الافتراضي صانعا -بذلك- تجريبيته الخاصة، مفترضا موت كل فرد من آل السلومي، وما يمكن أن يخلف موت كل واحد منهم، والخسارة ستكون فادحة لو مات التاقي.. بموته ستتشرد الأسرة، فهو الشخصية الرئيسة في العمل الروائي. ويقر بأن الموت يتربص بالأحياء، وليس مهما كيف يموتون ومتى. وبنفس الكلمة، التي بدأ بها الرواية يختمها بها، ومن نفس المشهد متحسرا: «يا خسارة».
إنها رواية تحتمل أكثر من قراءة، و تستحق عرضا مفصلا، يغوص في ما وراء السطور، وهي دليل على أن الرواية المغربية بخير، بعد أن تحررت من سطوة التقاليد الجمالية المشرقية والعالمية، والمنجز الروائي المغربي يستحق احتفاء من نوع خاص في زمن صارت فيه القراءة والكتابة من هواية كائنات على وشك الانقراض.