كل ما في المكان صاخب ، وكل ما في المدرسة هرج ومرج ، وثمة الضجيج المتداخل ، فليس ثمة القدرة على التمييز الا ان في حال الاقتراب من البشر . اكثر من الف وخمسمائة انسان في المساحة المدرسية . نساء ورجال ، اطفال وصبية ، بنات وبنين . الفصول مشغولة .. وسعيد من استطاع ان يعتلي بجسده طاولة او رحلة مدرسية في احد الصفوف . وثمة البرد ، الى جانب الخوف . كان الاطفال يكثرون من التردد الى ( المراحيض) .. الخوف – مع البرد – يزيد الرغبة في التبول . وهناك البكاء والانين . البكاء جوعا ، والأنين توجعا . وليس الوقت ملائما لوجع المعدة او للزكام . المشافي – في القطاع – خصصت للجرحى والشهداء ، وعليه قال ابو احمد وهويجلس في الشمس مع مجموعة من رجال المخيم الذين خرجوا واسرهم معه الى المدرسة هذه : 0( كل الامراض يجب ان تتأجل ) . ضحك المدخن العليل الكهل ابو ماهر الذي كان مقرفصا الى جانبه : ( انت ترش على الطين بعض السكر ! ). احمد ، ذو الخامسة من العمر، لم يجد ادفأ من حضن امه . كانت تشد عليه ، وتمنع الهواء من التسلل اليه من تحت أبطيها او من أي مكان آخر، فاللحاف الوحيد الذي استطاعت ان تختطفه قبيل الهرولة من البيت كان كافيا لهما . اما الوالد فظل يقظا طوال الليل تقريبا ولم يذق طعم النوم الا بعد صلاة الفجر . كان يتوحوح من البرد . خرج قبل قليل من ( غرفة الصف) بعد ان استطاع الحصول على ( كاسة من الشاي) – وهو يتمنى فنجان قهوة مع السيكارة التي اشعلها توا .. قبل ان يلتحق بمجموعة من الرجال ومن ثم يجلس القرفصاء معهم .. فقد تحلقوا حول نار أوقدوها من أخشاب يعلم الله من اين جيئ بها– لعل وهجها يلفح البرد الذي يحاول الالتصاق بوجوههم والاستيطان في قلوبهم .
في السماء كان ثمة ما تعارف الأطفال على تسميته ( الألعاب ) النارية. قال أحدهم – وهو اكبر من أحمد :
هذه ليست ألعابا فعلا .
سأله صبي اصغر منه ولكنه اكبر سنا من أحمد :
كيف عرفت ؟
- بسيطة .. ألألعاب النارية تنطلق من الأسفل الى الأعلى ، هذه الألعاب تنطلق من الأعلى الى الأسفل . وتلك تنتشر في السماء ثم تذوب وتختفي ، وهذه تنتشر على الأرض وتزيد حدتها وتشتعل أكثر بالملامسة .
تدخل أحمد متسائلا :
يعني ان وصلت الى هنا ليس علينا أن نلمسها ؟أشار اليه الأكبر أن نعم . ثم راح مع مجموعة من الأطفال الآخرين يلاحقون الشمس – بحثا عن الدفء .
- 2 -
تابعتهم عينا احمد . اكتشف أنهم جميعا ما يلبثون أن يلصقوا أعينهم بالسماء ما ان تظهر الطائرات ، أو ( التزيزات ) أو ( الزنانات) التي تظل تئز طوال الوقت بحيث تساءل ان كانت لاتتعب ، ولماذا . وان كان سوف يفتقد صوتها المزعج ذات صباح – بعد أن يعود الى بيتهم . تذكر البيت وهرع يبحث عن أبيه ليسأله عن الدار . كان أبوه لما يزل مقرفصا مع نحو ستة رجال آخرين– وكانوا جميعا يدخنون ويتحلقون حول ( كانون مفترض من النار ) – وكانت أحاديثهم عصية على فهمه وان تمكن ان يفهم أنهم غاضبون وان أصواتهم كانت عالية – ربما لتظهر على أصوات المئات من الناس الذين انتقلوا الى المدرسة .
بابا لماذا لانعود الى البيت ؟
ضحك أبوه :
- سنعود بعون الله – لكن بعد حين.
لماذا ليس اليوم ؟
أجابه كهل كان قد انهى توا نوبة سعال بسبب تغيير دخانه اضطرارا :
هنا أحسن وأكثر أمنا.
ولما لم يستطع احمد أن يفهم تماما ماأراد الرجل أن يقول ، تطوع الرجل مرة أخرى وقال بكلمات واضحة وبطيئة :
هنا نحن بحماية العلم الأزرق .
راح الرجل يشير بذراعيه الى العلم المرفوع على المدرسة – علم ( الأمم المتحدة –ألأونروا ) – فهم الطفل أنهم الآن مع هذا الحشد من العائلات ينشدون الأمان من القصف والموت .كانوا في ( مدرسة الفاخورة ) في جباليا .. نظر احمد الىالعلم . لم يجد فيه ما يدل على انه أقوى من جدار بيتهم مثلا ، كما انه لم يفهم معنى أن يكون هذا المكان أكثر أمنا ويكون بيتهم أقل أمنا . لكنه تركهم وحاول أن يلتحق بالصغار . هناك من نجح على ما يبدو في الحصول على ( طابة ) كبيرة – ليست قوية او ثقيلة مثل كرة القدم لكنها تمتلك خاصيات النطنطة ، والتحليق ايضا في الفضاء، فحاول ان ينضم الى اللاعبين الصغارمن أترابه .
في السماء كان ثمة الهدير المتواصل . وبغتة ساد الصمت . انها ( ألأف ستة عشر ) . قال الصبي الأكبرسنا من أحمد :
ماذا تفعل هذه الطائرة ؟
تجاهله الصبي الكبير ، فهوكان يتابع بعينيه وقلقه تحركات الطائرة المحلقة في كبد السماء . كانت السماء – كما يراها أحمد الآن – بلون ازرق . وتعجب أن يكون لونها بلون العلم الذي قال عنه الكهل انه يحميهم . ثمة من صرخ فجاة في المدرسة . امراة ربما أو أكثر . لكن أحمد طار ، وحلق عاليا ، مع ( الطابة او مثلها ) وكان يسمع من ينادي عليه ، ربما صوت امه او صوت ابيه .. لم يستطع التمييزلكنه تنبه الى أن الدنا صارت بلون آخر ، وان العلم الأزرق لم يكن أزرق اللون ، والسماء ذاتها كانت مزيجا من الأسود والأحمر وثمة وجوه متلاصقة في كل مكان تقع عليه عيناه .كان يحلق الى الأعلى وهو يتألم اذ أنه نسي أن يقول لأبيه ان الألعاب النارية يمكن ان تنطلق من الأسفل ومن الأعلى لكنها ألعاب ، وهو يدرك اللحظة ، قبل أن يلثم وجهه ترابا احتضن عشرات الوجوه والأجساد ممن كانوا في ساحة المدرسة ، أن الأزرق لم يكن ليحميهم كما كان يفعل جدار غرفة في بيتهم ، قبل أن ينسفه طيران ( جيش الدفاع ) بعد أن أغرق (جباليا ) بالمنشورات وأمطرها بالنار فتغير لون الأزرق .
(•) في السادس من شهر كانون الثاني من عام 2009 ، قصف جيش الاحتلال ( الاسرائيلي ) مدرسة ( الفاخورة التابعة الوكالة غوث اللاجئين ( الاونروا ) في مخيم جباليا ( بقطاع غزة – ما ادى الى استشهاد 45 وجرح 150 من الذين لجأوا الى المدرسة بعد ان هدم الاحتلال بيوتهم في المخيم .