ـ الأول: تحقيق هذه المعادلة ـ الهم، عبر الموضوعات والمضامين والملامح الإنسانية العربية ورموزها الخاصة.
ـ الثاني: عبر معطيات تراثيّة عربية وإسلاميّة محددة، تجلت في أكثر من منحى واتجاه، لعل أبرزها وأهمها، القدرات التشكيليّة والتعبيريّة المتميزة للحرف العربي، إضافة إلى المعطيات الزخرفية التي طالما اقترنت به، وتكاملت معه، وهذا التوجه هو الذي خلق التيار الفني التشكيلي العربي المعاصر القائم بذاته، والذي اُصطلح على تسميته بـ «الحروفيّة» التي باتت تغطي كافة الحيوات التشكيليّة العربية المعاصرة، بإيقاعات بصريّة متفاوتة الحضور والفعل، متلونة الشكل والصياغة، يشتغل عليها اليوم عدد لا بأس به من الفنانين التشكيليين والخطاطين الأكاديميين والهواة، وكلهم يرفعون يافطة عريضة تؤكد سعيهم من أجل تقديم منجز بصري جديد، يوفقون فيه، بين تلاوين عصر أنهكته الكشوف التقانيّة المتلاحقة، وتراث عريق، اختلفت النظرة إليه وتعددت، لكن الجميع أقرًّ، بأهمية وضرورة التمسك به،
خاصة في هذا الوقت الذي تعمل فيه جهات عدة، لاقتلاعه وإلغائه، ليس في بلادنا العربية فحسب، وإنما في كافة البلدان المالكة له، تمهيداًُ لسيادة «العولمة» واجتياحها للشعوب والأمم، بهدف تحويل الإنسان المعاصر، إلى متلقٍ يملك جاهزية دائمة، للاستقبال والتنفيذ. اختلفت النظرة إلى «الحروفية» وتعددت من قبل الخطاطين والفنانين التشكيليين العرب، بعضهم رحب بها وشجعها ورآها الطريق الأمثل لتحقيق مقولة «التراث والمعاصرة» التي تحولت إلى هم وإشكاليّة، ليس لدى التشكيليين فحسب، بل ولدى كافة المتعاملين مع ألوان وأجناس الإبداع المختلفة من رواية وقصة ومسرح وموسيقا ... الخ.
بالمقابل، ورغم اتساع انتشار الحروفيّة وتناميها الدائم، لم تلق حتى الآن ما يكفي من الدراسة والاهتمام والتحليل اللائق بصخبها وتنوعها والمواقف المتباينة منها، سواء من قبل الفنانين التشكيليين العرب بعامة، أو الفنانين المشتغلين عليها بخاصة، وحتى من قبل الناس العاديين المهتمين بما يجري حولهم، إضافة إلى المواقف المتباينة والصداميّة بين (التشكيليين الحروفيين) و (الخطاطين).
(محمد بن فاضل الحسني) واحد من الفنانين التشكيليين العرب الذين استهوتهم الحروفيّة وشدتهم إليها، ما دفعه لاعتماد الحرف العربي وسيلته التشكيلية الغرافيكية الأساس، في بناء لوحة فنية معاصرة، تتماهى فيها القيمة البصريّة لفنون الرسم والتصوير والحفر، إضافة إلى تنوعها وغناها بقيم غرافيكية حديثة.
سيرة ذاتيّة
ولد الفنان التشكيلي العماني (محمد بن فاضل الحسني) في مسقط عام 1966. عمل منسقاً للفنون التشكيلية في المديرية العامة للثقافة بوزارة التراث القومي والثقافة العمانية، وهو عضو في الجمعية العمانية التشكيلية، ومرسم الشباب، وجماعة الفن بالنادي الثقافي. تخرج في المعهد العماني للتدريب والتأهيل (اختصاص فنون خطيّة) عام 1992. شارك في العديد من المعارض العمانية الداخلية والخارجية، كما أقام عدة معارض فرديّة لأعماله، وهو يجمع فيها بين خصيصتي التشكيلي والخطاط.
في حوارٍ مطولٍ لي معه، أكد الفنان الحسني أنه أسس لتجربته الفنية بدراسة الخط العربي والزخرفة، ثم انكب على كتابة الخط العربي الكلاسيكي قبل أن ينتقل إلى مرحلة التجسيد والتصوير بالحرف العربي، وتالياً، إقامة عمارة لوحته بكاملها، من المعطيات التشكيلية والتعبيرية الكبيرة لهذا الحرف.
ويعتقد الفنان الحسني أن هذه المعطيات قادرة على التواصل وفتح حوار بصري وفكري مع المتلقي، بدليل هذه النتاجات الإبداعية الكثيرة الموجودة في الحيوات التشكيلية العربية المعاصرة، بل لقد انتقلت الحروفيّة أيضاً، إلى عدد من الفنانين التشكيلين الأجانب، حيث يشتغل عليها عدد لا بأس به، ما يؤكد القيم التشكيلية والتعبيرية الفريدة للخط العربي.
إلى جانب التعبير بالسطوح، حاول الفنان محمد الحسني، التعبير أيضاً بالحجوم، فاستلهم الخط العربي وعالجه على شكل منحوتات فراغية، وهو يعتقد أن كل قطعة فنيّة تنجزها أنامل فنان حساس ومرهف، سواء أكانت نحتاً أم تصويراً، من الطبيعة أو الحرف العربي، تشخيصية أو تجريدية هي عمل فني ساحر وجميل.
ويشير الفنان الحسني إلى أن التجربة التشكيلية العمانية بدأت منذ ثمانينات القرن الماضي بإنشاء مرسم الشباب. كانت هناك تجارب فنية قليلة قبل ذلك، تمكنت من إرساء قواعد هامة للحركة الفنية العمانية الحديثة، وذلك عندما أقدم أصحاب هذه التجارب على تدريب بعض المواهب التشكيلية الهاوية التي سرعان ما تنامت لتترك بصمتها على الساحة التشكيلية العمانية، ولهؤلاء يرجع الفضل في دفع الحركة التشكيلية ونشرها على النطاق المحلي والخارجي، والحركة الفنية التشكيلية العمانية، وبشكل عام، تمثل الأصالة والبيئة والتاريخ، وعُمان غنية به وببيئتها التي كانت وستبقى المنطلق والأساس لسدنة الجمال وشغيلته في هذا البلد.
أساليب وتقانات
المتأمل المتمعن في تجربة الفنان محمد الحسني، يجد أنها تعيش حالة بحث و تجريب، سواء على صعيد الأسلوب أم التقانة، غير أن نزعة غرافيكية حديثة، تطل من كافة أعماله، على اختلاف صياغاتها والتقانات اللونية والخطيّة المستخدمة في إنجازها، وفي هذا إشارة واضحة لأسبقية شخصية الخطاط لديه على شخصية التشكيلي، وتالياً طغيان الأولى على الثانية. وشخصية الخطاط في الأساس، تنتمي لعالم الغرافيك أكثر من انتمائها إلى عالم التصوير، ما يفسّر لنا بجلاء، السبب الحقيقي خلف بروز هذه الخصيصة وطغيانها على كافة تجاربه التشكيلية الحروفيّة التي يمكن تصنيفها في اتجاهين رئيسين: الأول تشخيصي، والثاني تجريدي.
الاتجاه التشخيصي
نجد هذا التوجه في الأعمال التي حاول فيها الفنان الحسني بناء هيكليّة تشخيصيّة إنسانيّة أو طبيعيّة، من خلال كتلة حروفيّة تتجمع إلى جانب بعضها البعض بثخانات وإيقاعات مختلفة، لتشكّل إنساناً في حالة ابتهال، أو سجود، أو مناجاة، أو ترسم كرة أرضيّة، أو غيوم، أو بيوت، أو أشكال حيوانيّة .. الخ. والعبارات والنصوص التي يبني بها ومن خلالها الفنان الحسني هذه المشخصات، قد تشير إلى المعنى أو الدلالة أو الفكرة التي أراد التعبير عنها، من خلال معناها الدلالي المباشر (دعاء، سجود، أرض، بيت، عصفور ... ) أو يشير إلى ذلك من خلال التجمعات والهيكليات التي تكوّنها هذه العبارات والنصوص، عبر توزيعات وإيقاعات بصريّة مدروسة لوناً وخطاً وتكويناً.
إن عملية عكّس أو تجسيد معنى الكلمة أو النص، بشكل مشخص، مارسها الفنان العربي والمسلم (خاصة الخطاط) القديم، ولا زال بعض خطاطي اليوم يمارسونها، كأن يرسم الخطاط من كلمة (عصفور) عصفوراً، أو من كلمة إبريق إبريقاً، أو من عبارة حصان حصاناً أو من كلمة الأرض أرضاً ... وهكذا.
ولتعميق التعبير في لوحاته الحروفيّة المشخصة هذه، ووضع المتلقي في جو الفكرة وأبعادها الصوفية النورانيّة القدسيّة، يقوم الفنان محمد الحسني بمسرحتها عن طريق خشبة وإضاءة (برجكتورية) تتجمع عبر حزم ضوئية، تسقط من الأعلى لتبرز وتؤكد كتلة الشخص وحركته ووضعيته، وفي نفس الوقت، تحفز إحساس المتلقي وتوجهه لالتقاط الرسالة التي أراد إيصالها له.
في هذه الأعمال، يبدو الفنان الحسني مُقيداً من الناحيّة التشكيليّة الغرافيكيّة، إذ يقوم بتسخير كافة عناصر العمل لخلق الهيئة المشخصة التي تمارس فعلاً معيناً هو المعنى أو الفكرة التي أراد التعبير عنها. ولأنه وجد أن الدلالة المباشرة التي تقدمها هذه المشخصات الحروفية لا تكفي للإحاطة الكاملة والوافية بالمعنى العميق لها، لجأ إلى استخدام الأرضية المنسوجة من حشد هائل من الكلمات والحروف، والإضاءة المركزة، والتوزيع المدروس لعلاقة الأبيض والأسود، والظلال والأضواء، والفاتح والغامق.
الاتجاه التجريدي
في هذا الاتجاه، نقف على معالجتين اثنتين: الأولى تتماهى فيها التشخيصيّة بالتجريدية، والثانية تجريدية كاملـة.
في المعالجة الأولى، يحافظ الفنان الحسني على حضور خجول للواقع والمشخصات في أعماله، عير إيقاع تشكيلي غرافيكي تتنازعه خصائص وتقانات الرسم والتصوير والحفر والإعلان، حيث يقوم باعتماد أرضية بلون واحد نقي، يزرع فوقها كتلة رئيسة (دائرة ـ أرض) صلبة، زاخرة بالألوان والكلمات والنصوص والرموز. ولكي يخفف من وقع كتلتها، يحيطها بغمائم من الألوان الشفيفة المزروعة بالعبارات والنصوص المتعددة الثخانات، تارةً تلتف حولها كالسوار، وتارةً أخرى تخرج من محيطها كأنها بركان أو رفوف من النحل الخارج لتوه من الخليّة.
في هذه الأعمال، يتحلل الفنان محمد الحسني قليلاً من سطوة نزعة التشخيص والمباشرية لصالح نزعة إشادة بنيّة تشكيليّة من الصعب تصنيفها ضمن لون محدد من ألوان الفنون البصرية، فهي رسم وتصوير وتخطيط وإعلان وحفر في آنٍ معاً، لكن النزعة التوليفيّة الغرافيكيّة هي الأبرز فيها. نراها في التشكيلات الخطية، وفي اللون، وفي عمارة اللوحة أو تكوينها، ولشعوره الطاغي بضرورة تواصل المتلقي معه، قارب فيها الاصطلاحات والرموز الواقعيّة القادرة على فتح حوار بينها وبين متلقيها، كما حاول ضمن هذا التوجه، تضمين النصوص المبثوثة في جسد المعمار التشكيلي، معانٍ محددة، تدعم وتسند الفكرة أو المضمون العام للوحة.
في المعالجة الثانية التجريديّة، اكتفى بإشادة معمار اللوحة من الخطوط الرقيقة والثخينة، تارةً بفردها فوق مساحة العمل، لتخرج من أطرافه الأربعة، وتارةً يحصرها ضمن رقعة مهشرة بخطوط ناعمة قاسية، ومؤطرة بخطوط عريضة صلبة، تبرزها وتؤكدها، أرضية شفيفة منفذة بلون واحد، قد يكون لون الورق، وفي جسد هذه الرقعة، يزرع نصوصه وكلماته وعباراته وكأنها إشارات موسيقية، تتوسد جسد (نوته) أو إشارات وأخاديد، تركها الزمن فوق جدار متهالك، وقد تقارب أحياناً، الرُقم والمخطوطات القديمة التي نجت من عاديات الزمن، لتصل إلينا، لحظة مجمدة، تبوح بالكثير عن عصرها وإنسانه. في هذه الأعمال، يلجأ الفنان محمد الحسني للتنويع بثخانة الخطوط والحروف، كما قد يوشيها بأرقام ورسومات لطيور وزخارف وغيرها، إضافة إلى التنويع بدرجات الألوان وطريقة مدها فوق الورق أو القماش، بغية التأكيد على التكوين وتحريك اللوحة بصرياً.
تجربة لافتة
في تجربة لافتة، قدم الفنان محمد الحسني نفسه نسَّاجاً غرافيكياً مهماً، يقود عناصر لوحته بمهارة الخطاطّ والتشكيلي، وبحس توليفي فائق الانسجام، رغم التنوع الحركي الكبير والجميل، الذي تؤديه المساحات في معمار اللوحة.
في هذه التجربة، يلجأ الفنان إلى خلق مساحات مرصوفة بعناية وعفوية في آنٍ معاً، ومن درجات لونية منسجمة، تتدرج من الفصائل الباردة (أزرق، أخضر، بنفسجي، بني) تبرزها وتؤكدها لطشات خفيفة وقليلة، من الأحمر الحار. وهذه المساحات المشكلة لمعمار اللوحة، منفذة من سحبات ريشة شفيفة يرصف فوقها تأليفاته الخطيّة المتجمعة إلى جانب يعضها البعض، تارةً بكثافة، وتارةً أخرى، بإيقاع متباعد وممطوط للحرف المكرر في أكثر من اتجاه، وبحركات مختلفة.
هذه التجمعات الحروفيّة، لا تأخذ كامل مساحات الألوان، وإنما جوانب منها، ما يخلق حالة حوار بين اللون والخط، من جهة، وبين المساحة والأخرى، من جهة ثانية، خاصة وقد نوّع في الأساس في درجة ألوانها الغامقة والفاتحة، الكامدة والزاهية، المضاءة والمعتمة. وما أسعفه في إبراز معمار اللوحة أو تكوينها، تركه مساحات لونية مصمطة بين أركان اللوحة، وتنويعه لثخانات الخطوط، والسطوة الكبيرة لبعضها على كامل مساحتها.
هذا التنويع الخطي واللوني، خلق حالة إيقاعية بصريّة ساحرة ومعبرة، نهضت بكاملها، على إحساسٍ غرافيكيٍ رفيع، أتقن الفنان محمد الحسني التعامل معها واستثماره، في خلق لوحة غرافيكيّة حروفيّة حديّثة نهضت بكاملها،
على القدرات التشكيليّة والتعبيريّة للحرف العربي الذي برع الفنان في التعامل معها ونسج تطاريز جميلة منها، أسعفه في ذلك، تمكنه من قواعد الخط العربي الكلاسيكيّة، وخبرته التشكيليّة التوليفيّة، في التعامل مع اللون وطرائق توزيعه، في معمار اللوحة الذي نهض لديه، على تعاضد وتكامل اللون والخصيصة الغرافيكيّة الفريدة للحرف العربي، ما يؤكد أننا أمام خطاطٍ خَبِر أدوات وأسرار وقواعد ونُظم هذا الفن العربي الجميل والفريد بما يتمتع به من قدرات تشكيلية وتعبيرية رفيعة، وأمام موهبة تشكيلية تملكت الكثير من أسرار اللون والرسم والتعامل مع سطح العمل الفني الغرافيكي بكل ما يموج به من موتيفات وعناصر وتوزيعات مدروسة لتدرجات الأبيض والأسود والرماديات المتوالدة من عملية تزاوجهما.