وعلى اللغة وبسببها يكون الكشف الواعي عن المكان تتحرى به اللغة التكثيف في اللحظة والإسهاب في الوصف لتكشف للقارئ روح الصحراء ومكنوناتها حتى يغدو المكان «نوتة» تضبط السياق , ترتفع أحيانا لتكون السياق , وتتساوق في أحايين أخرى لتبني السياق .
يمارس الكوني في نصوصه لعبة المزاوجات فالمكان ( خيالي – تجريدي ) والزمان ( أسطوري – واقعي ) يجعل الدخول إلى مروياته خياليا وصعبا والخروج منها انتزاعا وأشد صعوبة .
نحاول الدخول إلى عالمه من باب المكان ودلالاته .
تجليات المكان :
“ لقد كانت الصحراء دائما وطن الرؤى السماوية “ بهذه الكلمات “لروبرت موزيل” يملك الكوني مفاتيح الصحراء , فالمعرفة في أعماله الروائية تستلزم رحلة مكانية يحيل فيها الواقعي إلى رمز ذهني واللحظة الزمنية في سياقها التعاقبي إلى إيغال معرفي ينحو إلى اكتشاف ذاكرة المكان , فهو إما خلق أو محاكاة لخلق شخوص وصحراء دفنتها الذاكرة وأراد إعادة نشورها لتترى كصور رمزية على امتداد نصوصه , يمنحك المكان فيها صورته بناقل لغوي سمته امتزاج الواقع بالخيال فهي الوجود الروائي برمته يكون البعد البصري شرطها ضمن سياق اتفاقي تخلقه خصوصية المكان , وإعادة المكان ذهنيا تتطلب حلم يقظة ينشد فيها الحنين ليصل أكثر الأمكنة غورا في الذاكرة لخلق صورة تعتمد الخيال الحميمي لصنع الهوية المكانية . ففي رواية “ أنوبيس “ مثلا وحسب مقدمة الكاتب يكون الدافع إلى الماضي هو أحد الأركان التي يقوم عليها المنتج الأسطوري فالحنين هو العزاء لمن فقد الطريق . وبناء على الحنين تكون الصحراء هي المكان الذي يحتفظ بأزمنة متجاورة دون شرط المفارقة فهي الماضي ذهنيا والحاضر واقعيا والمستقبل سرديا وكتابيا .
عنصر المكان في فضاء الأسطورة :
يهىء الكوني المكان ( الصحراء ) ليوظف الأسطورة كمادة سردية تقوم على مكوناتها الرواية بكل تفاصيلها فيعمد إلى إعادة ترجمة العوالم الأسطورية ونشر المخبوء فيها من شخوص وكائنات , فللعجائبي فيها طبيعة مكانية يسوقها السرد لتصل إلى قناعة مفادها أن لاشيء فيها خارج الأسطورة فالمكان باستقلاليته الذهنية عن الأسطورة من جهة وحضوره السردي داخلها من جهة أخرى يلزم السياق بتقديمه كواحد من مكونات المروي في القصة . ففي رواية “ أنوبيس “ أو “ أنوبي “ تجد أن الأسطورة هي لإله الموتى لدى الفراعنة لكننا ومن خلال السرد نجد أحداثها تدور في صحراء الكوني مثال ذلك “ ذهبت إلى الغار الموسوم بوصايا الأولين , ومكثت هناك أياما “ ص 92 وبالعودة والمقارنة مع أعماله السابقة تجد هذه الأمكنة موجودة في صحراء ليبيا فالغار مثلا يتكرر كما هو في روايته “ نزيف الحجر “ فالمكان واقع افتراضي تستعيره الأسطورة ليكون وعاءها والسرد هو لغتها الخيالية تعطي الأسطورة سمتها الأبدية .
البعد الفلسفي والنفسي للمكان :
عبر محاكاة العالم المثولوجي يظهر الموروث المكاني ليكون الدستور الاجتماعي غير المنظور الذي يحدد علاقات الصحراء ويقودها ورغم تغير البناء الشكلي للعمل الأدبي ( رواية – قصة – نصوص – أساطير – متون ) نجد مرتكزات أساسية وتقاليد راسخة تظل ضاربة جذورها في النسيج الحكائي , يعمق استخدامها فكرتنا عن الواقع الصحراوي ( أرضية العمل الأدبي ) فتكون هذه “ النواميس “ ضوابط الفعل الأدبي وأقنية تحرك الشخوص .
يتجلى المعنى الرمزي للمكان المستمد من الخيال بقيمته النفسية والجمالية فالإحساس به يكشف عن التماهي في العلاقة بين الكوني والصحراء وتكون اللغة هي أداته .
فإبداعه يحمل دلالات لانهائية تجعل لا المكان فقط بل وحتى أبسط أشيائه تنعكس في نفسه وتستحوذ على ذاته وقلمه فهو يؤنس الصحراء بالقول “ صحرائي الكبرى “ ويلتحم محموما بها فيقول “ صحرائي وطن , صحرائي استعارة “ , ويهبها بعدها الفلسفي بالقول “ هل نخطئ إذا قلنا أن الصحراء هي المكان الوحيد الذي يستطيع فيه الكائن أن يذهب ليشاهد الأبدية ثم يعود وهو ما يزال على قيد الحياة “ ص133 .
في بعده النفسي يخرج الكوني المكان من رمزه التقليدي ففي رواية “ الواحة “ ثنائية رباعيته الخسوف تخرج الواحة عن كونها مكاناً للاستقرار لتصبح قيداً يشد قاطنها إلى الأرض مما يجعله عبدا لها يتنازل أمامها عن حريته ومع حركة الفعل في الرواية نجد “ أمود “ يترك الواحة بحثا عن نفسه في الصحراء فصوت الجسد والذي نطق به لسان الشيخ “ أهر “ يخاطب “ أمود “ :
هل تعتقد أن تقديم النفس قربانا للسراب عمل من قبيل البطولة “ ص 284 ليأتي صوت الروح محرضا في الفعل “ أنطلق أمود يقود الجمل وراءه قطع مسافة طويلة في العراء قبل أن يلتفت ويرى الشيخ يقف وحيدا في المتاهة ملفوفا بالصمت والوجوم “ ص 286 , وتتأكد هذه الدلالة النفسية في “ صحرائي الكبرى “ بالقول “ لهذا السبب تبقى الواحة جسما بلا روح ينبغي الفرار منها والصحراء في عريها تخفي كنزا مستترا “ ص129
يتحرك في أعمال الكوني نسق أخر من الحيز الرمزي للمكان وهو الجسد فالجسد في عقيدة الكوني مكان يمسك الروح فيدعوه في روايته “ملكوت طفلة الرب “ بالقمقم ويجده “ يكتم أنفاس سلالته بالجسد “ ص 17 نقرأ في روايته المجوس “ هنا فوق القمم العارية يقترب من الآلهة يتحرر من البدن ويصبح بمقدوره أن يمد يده ويقطف البدر “ ص123
إذا فالمكان في دلالته هنا يساوي القيد .
يهيمن الوصف المكاني في التعبير الاستعاري للحالة النفسية للشخوص فيبدو المكان وكأنه رؤية ذاتية صرفة فالعالم الروائي لايعلن عن نفسه بالحركة والفعل فقط بل يشترك المكان حتى يغدو ظاهرة متواترة وسمة أساسية للتجربة الفردية والجمعية في المحيط الطبيعي الذي يصفه ويظهر في معظم أعماله كديوان النثر البري قصته السفر “ استمرت الصحراء تتمدد وتتباعد طوال السفر . العراء الفسيح القاسي الأبدي يلد أفقا وكلما توغلا كلما ازداد الأفق خلودا “ لتجد أن حالة الزعيم وتعبه إلى جانب القافلة التي رحل بها تستمد وصفها من وصف المكان حولها فالعراء قاسٍ لايرحم أفرادها وأفق الصحراء مكابرا يأبى الانحناء ليكون خلاصا لعذابهم فالمكان يوحي بانعدام الأمل ومنه فالقافلة بأفرادها تغرق في حالة اليأس , وفي مكان أخر يكون لوصف المكان وهو العراء دلالة نفسية أخرى ففي “ نداء الوقواق “ رباعية الخسوف يرى في العراء شكلا أخر فالتبروري يصف الشيخ غوما بالقول “ أنت اله الصحراء رغم أنف الكارهين , أنت شيخ الصحراء إلى الأبد والقبيلة ماهي إلا جزء صغير من الصحراء العظمى “ ص 119 فالشيخ غوما يكتسب عظمته من المكان الذي هو سيده وهو العراء بوصف مجازي تمثيلي . ويتجلى المكان بواقعه المادي ليصبح دلالة نفسية فتتشابك خيوطه التاريخية وخصوصيته المشهدية لتكون عاملا مؤثرا ففي مجموعته القفص يرى الكوني “ أن القلاع خلقت لأولي الأمر لأنها أقرب إلى مقام الآلهة “ ص133 . إذا فللمكان بعد فلسفي في عقيدة النصوص تقول أن اللامكان هو السبيل الوحيد لبلوغ الحكمة وللسيطرة على النفس .
وفي تحول أخر يملك المكان لدى الكوني قوة مطلقة ففيه نستشف مدلول الانتماء وربط الحيز المكاني بالوجود الشخصي فالفضاء الخارجي جدليا يؤثث المكان الداخلي النفسي ويترك تأثيره فيه ,والمسافة بين التيه وإيجاد الذات ترتبط بالحقيقة المجردة والدالة على دور المكان ووظيفته الوجودية ففي قصته إلى أين أيها البدوي مجموعته “ جرعة من دم “ يجيب الرجل وهو يدون في الأوراق - العنوان ؟ - الصحراء . – الصحراء ! - الصحراء . ليس لدي عنوان أخر ص57 فعالمه الصحراء ولا وجود له خارجه .
بناء المكان في السرد :
يرتبط المكان أحيانا بالإدراك الإبداعي داخل السرد فهو عبر تجليات تصويرية لايكتفي بتأطير الحدث السردي خارجيا بل يدخل في التكوين الرؤيوي للنص وبأشكال متعددة ,فبالاشتغال على التركيب الوصفي في السرد , يقدم المكان مفاهيم وتصورات تخدم السرد وتكون مادته ليصبح سمة العالم الروائي لإبراهيم الكوني وفيه تحول دلالي أخر .
ماذهبت إليه أجده في مجموعته القصصية خريف الدرويش ففي قصة أخبار الكائنات نقرأ بعنوان جسد “ الصبية لها قد مارد تتلحف بدثار أسود انحنت وهي تلج الخباء فتمرد الصدر وتبدى رغيف الملة , معتما, موسوما , غضا “ وبعنوان منافسة “ قامات الأشجار ماردة , يمتد الجبل إلى أعلى فتلاحقه تتسلق امتداد السفح تنتكس تنحني “ وبعنوان لغة “ الماء يتدفق من قمم تاسيلي ينساب عبر قنوات محفورة , تتباطأ المياه في القناة فتكف عن برطمتها الخفية “ فالسرد جاء وصفيا لحالات متعددة تسقط فيها الكائنات بتسلسل زمني يبدو رغم ثبات اللحظة كما في حالة الأشجار مستمرا ولانهائياً ولهذه الأمثلة ثنائية ( مكانية وصفية ) تتضافر داخل السرد بشكل منسجم يساعد على تطوير التركيب الزماني فعلى الرغم من الاعتقاد القائل “ أن الوصف يبطئ حركة المسار السردي “ نجد الخيال المكاني في الأمثلة السابقة يعطي مميزات الوصف مسارا حركيا كانسياب الخيال في الماء , وصعوده قمة الجبل على الأشجار فناقل الصورة المركبة (( المكانية )) بأشكالها وأحوالها المختلفة قد يخفف من وتيرة السرد ولكنه لايوقفه .
وفي أعمال أخرى تلغى حدود الفصل بين السرد والمكان فيكون المكان شكلا ثانيا للسرد يقود الحدث ويطوره وهذا مانلمسه في رباعيته الخسوف فالجفاف في الواحة يدفع أفرادها للرحيل ليتحرك السرد بتبدل حالة المكان وفي حراكهم السياسي الجزء الثالث من الخسوف “ أخبار الطوفان الثاني “ نقرأ “ ترددت في الواحة حكاية عن فلاح ضحى بحصته من ماء عين الكرمة واستبدلها مقابل بندقية عثمانية للمشاركة في صد الغزو “ ص69
إذا فالتضحية مكانية والمقابل الدفاع عن المكان .
البعد الدال على شمولية المكان :
لخصوصية المكان عند الكوني طابع مميز فهي تسم القارئ بتأثير عميق يترك دلالته على الإدراك الواعي فهو ينتقل من مستوى المدرك البسيط للربط بين ( الحدث والمكان ) إلى مدركات أشد شمولية واتساعا فتقترن لديه النظرة “ الزمانية المكانية “ لتكون نواة تفتح أمام عينيه جدلية الربط والتعميم فإذا كان الكوني قد أختار المكان عن وعي فان المتلقي وعن وعي أيضا يجري عملية إسقاط للأحداث على خلفية المكان الذي يشاء . فوادي “متخندوش “ في روايته نزيف الحجر هو العالم مصغرا , والصخرة التي تحمل رسم الكاهن إلى جانب الودان هي الإرث الإنساني الطبيعي والذي تمتلكه البشرية جمعاء “ عبر آلاف السنين , حافظ الكاهن العظيم والودان المقدس على ملامحهما المحفورة “ ص8 , وأسوف هو الضمير الحي للإنسانية الرافض لإحالة كل شيء إلى العنصر المادي “ قل ياعجوز النحس : أين خبأت إبلك ؟ تمتم الراعي بتعويذة: - لن يشبع أبن أدم إلا التراب . ص 144 والودان هي الطبيعة البكر ولحوما مستضعفة استساغها ذوي القربى . والتصوير البيئي لدى الكوني هو دعوة للقارئ للمشاركة بإحساسه وخياله في الفعل الحكائي لوعي ماتحمله من سمات تدل على المرحلة ولمسات ترصد الواقع وتكشف عن مواقفه إزاء المجتمعات كافة رابطا إياها بالتاريخ وتحركه فالزعيم “ أغوللي “ المختار بإجماع أهل العقل “ ص48 في روايته الدمية يحاول تحري الجيد من الرأي لما فيه خدمة العامة وصالحهم وتبدأ صعوباته حينما يقيم القصاص على رجل من الغوغاء ( العامة ) لسرقته عرق الشيطان ( الذهب ) ولأن عقيدة القبيلة لاتبيح امتلاكه فهو يصطدم بأعضاء المجلس حين يقرر إقامة القصاص على أحد أفرادها خالف هذه العقيدة و لتوقفه طعنات من أعضاء المجلس “ جروا الجرم إلى ركن القرابين تناول البطل المدية وقطع خيط التمائم بمهارة الأبطال “ ص176
ويبرز المكان في روايته من أنت أيها الملاك كمتلق يثير بطبيعته أسئلة تتعلق بالمصير ولأن الرواية تعرضت للاسم بين خلعه كهبة مجانية أو انتزاعه كفعل قائم على القدرة فقد سعى الكوني إلى خلق مكان يتميز بخصوصية إنسانية شاملة “ السجل المدني “ فمن خلال المكان والذي يتواشج على امتداد مساحة الأرض ليشكل دلالة واحدة في بناء المجتمع نجد الفرد الذي هو أساس مكوناته من خلال التمثيل الفني للشخوص في مواجهة دائمة لإثبات وجوده في المكان الأشمل وهو المدينة . فالمكان هنا نسيج من علاقة رياضية طرفي المساواة فيها الوجود والمكان فمن لاأسم له في هذا السجل المدني ( المكان ) لاوجود له في الحقيقة ( الأرض) , فالأحداث والوقائع التي يتعرض لها “ مسي “ يشكلان لديه قاعدة دلالية تنظم داخل النص مواقفه ومرجعيته الأساسية في التفكير وهي المكان ( الصحراء ) فهو يرفض قول محدثه “ للصحراء دين وللمدن دين أخر “ ص90 ليحمل في داخله ناموس أسلافه رغم تبدل الأرض تحت قدميه مما يدفعه نهاية إلى قتل وريثه والذي هو وريث البشرية جمعاء “ الوريث ليس وريثي وحدي ولكنه وريث البشرية التي تدعي الوصاية على ناموسها “ ص27 وذلك حماية للمكان القديم موطن حنينه الصحراء وصخرتها المقدسة وعن المكان الذي رفضه يوما في أن ينتمي إليه “ السجل المدني “ لأن عقيدة أسلافه تقول “ إياك أن تفعل شيئا على سبيل الانتقام “ ص225
إذا فالكوني لايحدد المكان إلا على سبيل المقاربة الذهنية ليطلقه بدء من هذه الأرضية ليؤالف بين الخيال والواقع الاجتماعي الحقيقي وذلك بجعل المكان ثيمة دالة على الشمولية .
إذا كان بعض النقاد قد أطلق على الرواية اسم “المجتمع المصغر “ فان الكوني قد نقل ضمن “ كنتونات روائية “ أجزاء من مجتمعه الصحراوي يكمل بتجاورها الصورة الكلية للمكان فكان بحق (راويا للصحراء) وقلما نفخ فيه روح العالمية بواقعية سحرية ورمزية قارب فيها فضاءه المتخيل بعلاقة صوفية ربطت روحه بروح المكان .