اعتماداً على شخصية تكون قريبة منها، أو تُطرح الكتابة بوصفها مداراً واسعاً ومفتوحاً، يمكن استيعاب الكثير من العلاقات التي يراد لها أن تتوضح في مسار الرواية، أو على الأقل، حين تكون الكتابة لوحة حركية لها دلالتها بالنسبة للروائية، حيث تتنوع موضوعات الكتابة، ولكنها من حيث المبدأ ذات أثر قيمي.
أكثر من ذلك، حين تكون الكتابة حلبة صراع على صعيد الانتماء الجنسي، باعتبارها احتكار الرجل ودالة سلطة رمزية، وكأن حضور الأنثى في اختلاف وضعياتها شخصية روائية تعرّف بنفسها كتابياً، إنما تقاسم الذكرَ علامة انتمائه الفارقة، حيث لا يمكن تجاهل القول الذكوريٍّ قديماً:
ما للنساء وللعمالة والخطابة والكتابه؟ هذا لنا، ولهنَّ منا أن يبتن على جنــابه!
ولعلنا في تتبعنا لنماذج روائية نسوية، نستطيع مكاشفة جوانب لافتة في فعل الكتابة كأداء وظيفي، يمكّن القارىء أو الناقد من استشراف حركية السرد وأبعاده القيمية في المتن الروائي.
الموقف من الكتابة وكيفية توظيفها في البناء الروائي، سواء من ناحية الخطاب المختلف أو طريقة التعبير حيث يكون الضمير، رافعة اعتبارية كبيرة له في استجلاء الخطاب، يبرز التفاوت في الكتابة الروائية استحكامياً، في مقام النظر وفي مدى القدرة على احتواء الموقف الجاري العمل عليه من الحالة الخام: الواقع المعيش، إلى الحالة الأدبية عبر طريقة السرد الكتابية، وفي المنحى ذاته، يكون الموقف من الكتابة التي تميّز شخصية ما فاعلة في مجتمع الرواية، أو يتم الرهان عليها باعتبارها منعطفاً أو مفترق طرق، أو سبيلاً لإقامة علاقة أو أكثر مع العالم الخارجي، أو لجعل العالم الخارجي هذا معنياً، مهدداً بثنائية الاختراق جنسانياً، أي يكون وثيق الارتباط في تحولاته أو مستجداته، بالجاري على مستوى الشخصية الروائية وهي تكون امرأة، وأن أي تصور لا ينفكُّ يعزّز موقفها النفسي إذ تشدد على الكتابة، كما هو الممكن النظر في نماذج روائية، يشار إليها من خلال الطبعة المحدَّدة بتاريخها.
في رواية( فوضى الحواس، 1999) لأحلام مستغانمي، حيث تكون حياة هي الساردة، أو الناطقة بلسان حال الشخصية المركَّبة في الرواية، تظهر الإحالات المرجعية إلى الكتابة نقطةَ عبور إلى العالم الخارجي، أو تأكيد ذات، أو نزع الاعتراف عن الآخر الذي يستبد بها، أو يقلل من شأنها باعتبارها امرأة أو أنثى، أو إطلالة مؤاساة وتحفيزاً للروح المضغوطة لتكون أكثر تماسكاً من الداخل. تلجأ الساردة الروائية إلى التعريف بنفسها كثيراً من خلال الكتابة وفتنة الكتابة لها، إنها ليست عزاء للذات، ليست أيضاً إبرازاً للذات الشخصية لها، إنما فعل بناء لها، تأصيل الكينونة ليكون في علم الآخر الذي يعلم بأمرها، ما يجب عليه التنبه إليه، كون الكتابة تصيّر المجهول معلوماً يعنيها هنا، أي ما يتضافر من عوامل سبر اعتبارية لتعُلَم بذاتها!
وتحاول غادة السمان التحصن داخل بيتها، ومن خلال راويتها التي ترتد إليها، وهي لا تخفي صلتها بكل من القراءة والكتابة، في روايتها اليومياتية( كوابيس بيروت،1976)، حيث العالم الخارجي في أتون الحرب الأهلية لا يطاق، وليكون احتماؤها بذاتها الأخرى داخل البيت والعزاء النفسي، بما يمتد أمام ناظريها من كتب للقراءة، أو قابلية للكتابة عما يجري، حالة استماتة تأكيداً لذات تواجه الموت الجسدي والروحي( كل كتاب إنسان تحاورت معه... فعلى هوامش كتبي كلها دونتُ ذلك الحوار... وعلى هوامش كتبي كلها سجلت صرخات الاستحسان أو الغضب أو التساؤل أو النقاش... الكتاب الذي أقرأه، أقرأه، كما لو أنني أعيد كتابته، أو أشارك كاتبه في حيرته وبحثه وتساؤلاته. ص350)، التفاعل مع الكتاب هنا تعويض عن حصول خلل مع المحيط الخارجي، رغبة في البقاء وتشبث بالحياة، بما أن مسارالحياة ينحو منحى حياتياً أدوم، وهي في الهامش الموسوم تؤكد على خاصية الرغبة الحياتية بين جنبيها، ورفضاً لمن يختزلونها.
بينما أحلام مستغانمي تمنح الكتابة خاصية شاعرية بجرعات أكثر، تكاد تحيل قضية كتابة الرواية إلى منتزه للمتخيَّل الشعري كثيراً، وهي تمزج بين شخصيتين: شاعرة وروائية فيها، كما هو أسلوب الكتابة عندها. إن الرهان على الكتابة داخل الكتاب، مواجهة للحظة العدمية الموجهة ضدها، وهي الأنثى المعتبَرة كثيراً، حالة سلب كتابية خارجها، ولكنها تشدد على هذا المسار في تبيان موقعها، على لسان حياة في ( فوضى الحواس)، إذ تظهرالكتابة وكأنها قضية منفصلة عن الوارد في سياق السرد الروائي بسبب انهمامها بها، تلك حالة رفع الحصار الذكوري بمعنى ما عما هو أنثوي مجيَّر، تأميم كينونتها حيث الحرب الجزائرية تطحن الجميع داخلها، وصوت الأنثى ينافس الآخر في الاحتجاج والمزج، بين البلد والجسد الأنثوي في الناطقة بلسان حال المقرَّبة منها( في الواقع، في مواجهة الموت، الأنوثة كما الكتابة، ليست عزاء على الإطلاق. لأنها تذكير دائم به.ولكن في مواجهة الجريمة. ماذا يملك الكاتب عدا كلماته.. وتلك الحياة التي مذ بدأ الكتابة.. لم تعد في جميع الحالات حياته؟ ص360).
بالترادف، تسعى مواطنتها فضيلة الفاروق إلى التعبير عن هذه الذات المهدورة، أو المشوهة والمزج بين الواقع المتشظي، وجسدها الذي تشعربه مفارقاً لها رغم أنفها، ولتكون الكتابة نوعاً من الإعلان الاحتجاجي ليكفَّ الآخر: الذكر رمزاً ودلالة، عن المساس بكينونتها كما يرغب، وذلك في روايتها( تاء الخجل، 2003)، حيث الكتابة تكون شهادتها( كنت مشروع أنثى، ولم أصبح أنثى تماماً بسبب الظروف. كنتُ مشروع كاتبة، ولم أصبح كذلك إلا حين خسرتُ الإنسانة إلى الأبد. كنت مشروع حياة، ولم أحقق من ذلك المشروع سوى عُشره. ص15).
بين الواقع والخيال الباهتين الفاقعين، تتحرك شخصية المرأة، بينهما تبحث عن رأس الخيط، وهي تسعى إلى لقاء ذاتها ذات الصدى الكوني كما يظهر، وكما يُستنتَج فيما تسرده راوية مي منسّى، في روايتها( أنتعل الغبار وأمشي، 2006)، وهي منقسمة على نفسها مكرهة( في المزج بينهما صرت أكتب بحبر دامس. أكتب كأني أحاكي نفسي، كأني أتحدث في موضوع من زمن آخر، فتصلني عبر الباطن فقاعات مشاهد.... الخ، ص13).
إنه الغبار الذي يؤذي العين، محفّزه العنفيَّ الذي يلجم الإرادة من ناحية، ويشدد على محتوى الإرادة من ناحية أخرى ، أي أن تكون إرادة حياة جديرة بالتقدير، كما هو المأمول من الكتابة تمييزأ لها.
الكتابة أكثر من كونها الصوت المسموع على الورق، إنها الكلمة التي تتخمر وتستحيل قوة تنوير حياة شخصية، تلك تعريف بصاحبة الصوت، حيث الصمت تم اختراقه، وفي الوقت ذاته تكون فاعل خلق ما على الصعيد الإبداعي، إذ الشخصية الناطقة على الورق لا تفارق ظل الروائية، أدوار حياة الأنثى، تحولات مجتمعها كما تتصرف غالية سعيد مع بطلتها صابرة، في روايتها التي تحمل في نصف عنوانها وبداية : اسمها، والرواية متمحورة حولها، أي ( صابرة وأصيلة، 2007)، عندما نقرأ( بالنسبة لصابرة، لم تكن الكتب الصغيرة التي تؤلفها وسيلة لتمضية الوقت والتسلية أثناء قيامها بالطبخ وتنظيف الأطفال والعناية بهم بل كانت شخصيات الروايات وأبطالها ملء السمع والبصر عندها، لدرجة أنها كانت تأخذ منهم النصيحة وتقع في حبهم..، ص26).
وقد يكون التصريح بأهمية الكتابة والمنشود منها مباشراً، على لسان الروائية بضمير المتكلم، فتكون الجامعة بين ذاتها الحقيقية مقرّها الحياتي اليومي كما هو المتصوَّر، وذاتها المتخيَّلة في جانب منها، وهو تصريح يؤخَذ من موقع تجريح الذات، وصعوبة الاستمرار صامتة منكفئة على نفسها، في مجتمع لا أظنه يتنفس بصخب خارج سلطان ذكورته، كما نتلمس ذلك بجلاء عند هيفاء بيطار، في روايتها ( أبواب مواربة، 2007)، هكذا(.. ورغم أني لم أمارس الكتابة من قبل، فإن رغبتي فيها تزداد يوماً بعد يوم، الكتابة بالنسبة لي محاولة حياكة كفن جميل لائق لعذاباتي الماضية، تلك العذابات التي أحرقت أعصابي بسببها من أجل لا شيء. ص7).
هذا التناقض بين فعل اللجوء والجنوح إلى السادية تجاه الذات، وفي الوقت ذاته الشعور بتلذذ عذابيٌّ مازوكي المنشأ، لا أظنه محصَّلاً دون وعي من الروائية، أو على لسان الناطقة باسمها، إنما عن وعي مباشر باستفحال مأساتها التي تتجاوزها كحالة شخصية، وإلا لما قرِئت روايتها، عن وضع البلبلة التي تعيشها في مجتمع، وكأن المكتوب تقرير وضع مفتوح على هاوية.
الكتابة تمارس فرزاً بين المنسوبة إليه، وما يكون نقيضاً له، أي الأنثى، عندما يكون العزوف عن القراءة أو الكتابة من جهة الرجل، إفصاحاً عن أنه محفوظ حقه كذكَر سيادياً، أما الرجل فيكون ارتباطها بالكتاب أو الكتابة، دخولاً في خانة المعرفة المدونة، خصوصاً حين تشعر بدونية موقعها، ببهائميتها مكانةً، إذ تلجأ إلى وصف: قصف دلالي من هذا النوع المريع السعودية ليلى الجهني في روايتها ذات الدلالة( جاهلية، 2007)، وعلى لسان الساردة الروائية في معرض المقارنة بين عالمين مختلفين، سمة الاختلاف: التمايز الجنسي، والكتابة عتبة رؤية لبُنية التمايز هذا(.. لكن شيئاً مما اختارته لم يعجبه. قرأ سطوراً في كتابين أو ثلاثة، ثم وضعها جانباً. ليس عنده من الصبر والوقت ما يضيّعه في كلام بارد لا حياة فيه. وقته له، وليس للكتب. وقته للأشياء التي يحب أن يفعلها، وليس للصفحات المملوءة بكلمات سيموت أصحابها دون أن يشعر بهم أحد. وهي أيضاً ستموت، ليس الآن فيما بعد..ص 29)..
لماذا هذا الاختلاف المشهود له بالتوتر والصراع الضمنيين أكثر؟ ما طبيعة الكتابة هنا يا تُرى؟
إنها كتابة: شهادة عيان نفسية على واقع حال، وسعي إلى الاستئثار باللغة الجانحة وهي تحمل طيف الرجل، نفاذ الذكورة العائدة إليه بكامل حمولتها التاريخية النافذة، وما يترتب على فعل التمادي السلطوي، من تبلبل ألسن واختلال قيم مجتمعية، وربما رغبة جارفة مقارنة بحدة ما يجري، في تصحيح مسار رغبة ماراتونية تمتد في عمق تاريخ طويل، كما هوة المستخلَص في كتابة المرأة، ومن داخل الرواية التي تحمل اسم الرجل، رياديته، مشهد الاستعراض اللافت من وراء هذا الاستئثار بالصوت والكتابة، والتشهير بالرصيد الموقعي لإبقاء الماراتونية في طابعها المجازي، خطاب الآخر المجلجل في خافيتها، كما هو النقيض الصارخ، كما تقول لغة الشعر في نزيف جسدها الرمزي من الداخل، من خلال المقتفى أثراً والمحتفى به لتأكيد جانب من الخصوصية المطلوبة، وليتسنى للمرأة التي تتحرك على الورق، وهي مسعى محرّكتها في التمثيل القريب أو البعيد، أن تكون أكثر أهلية لمعايشة حياتها دون وجود الجدارالفصل النوعي الذي يتمثل في قيمومة الرجل، في أشكال حجابه التي تسربل عليها كينونتها نفسياً واجتماعياً وتاريخياً ومواقعياً. إنها الكتابة التي تحرّر عموم الكتابة من كل تمثيل دون اسمه في الواقع!