تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الكائنات الروائية التي تكتب تاريخنا الخروج من قبضة المخيلة الواقعية

ملحق ثقافي
29/7/2009م
ترجمة د. علي محمد سليمان

يقول أحد النقاد في معرض حديثه عن طبيعة الشخصية الروائية: إن خلق شخصية روائية يشبه بعث الحياة في صورة فوتوغرافية لشخص غامض ومجهول.

إن الروائي يتأمل تلك الصورة التي تخرج له من مكان مجهول، من عالم مجهول اختزنه دون أن يدري ثم ظهر له كصورة فوتوغرافية نعثر عليها بالصدفة في أرشيف ما، وعلى الكتابة أن تحول الصورة إلى لغة تقنعنا أنها تتحرك وتتنفس وتغير ملامحها وألوان انفعالاتها. إن فكرة تحويل الصورة الفوتوغرافية لشخص ما إلى شخصية حية توهم بامتلاكها جسداً وحياة فكرة أصبحت تقليدية بشكل يتعذر التعامل معها بشكل جدي، ليس لأنها ليست صحيحة، بل لأن الشخصية الروائية ذاتها أصبحت بعد عقود من تراكم الانجازات الابداعية والنقدية مجرد مصطلح غامض لا يمتلك أي معنى محدد وثابت.‏‏

إن التطورات التي مر بها مفهوم وشكل وبنية الشخصية الروائية واضحة من حيث وجودها في مراحل تعاقبية، لكن بالرغم من هذه الحقيقة فإن كتابة تاريخ للشخصية الروائية يبدو لأسباب محيرة مهمة في غاية الصعوبة. وفي اللحظة التي أطلق بعضهم مقولة “موت الشخصية الروائية”، كان الجميع يتهيأ فيما يبدو للتخلي عن هذا الطموح بكتابة تاريخ لهذا الكائن اللغوي. فإعلان الموت ذاك كان في جوهره إعلاناً موارباً للعجز عن إنجاز وعي محدد لمنطق وجود وتطور الكائنات التي تعيش حياتها بين صفحات الروايات. ومنذ اللحظة التي تخيل فيها معظم النقاد أن الحداثة الأوربية قد تخلت عن الشخصية الواقعية التي تذكرنا بفكرة الصورة الفوتوغرافية الخام، خرجت الكائنات الروائية من قبضة المخيلة الواقعية وأصبحت تملك تاريخاً موازياً لوجودها.‏‏

ولكن بعد عقود طويلة من روايات فرانز كافكا وجيمس جويس، هل يمكن القول حقاً أن ما حصل في حياة الكائنات الروائية يتمتع بذلك المنطق الذي أوهمتنا به إشراقات الحداثة مطلع القرن الماضي؟! لا يبدو الأمر في الحقيقة بهذه البساطة. صحيح أن تنظيرات ثقافة ما بعد الحداثة توفر للعديدين أداة مناسبة لإعادة إنتاج مقاربة مشابهة لتلك التي جرت في مطلع القرن الماضي، بمعنى أن الانتقال إلى عالم ما بعد الحداثة أدى إلى ولادة كائنات روائية جديدة لا تشبه أسلافها وترفض كل المعايير السابقة لقراءتها ووعي وجودها. لكن ألا يؤدي ذلك إلى ذات الالتباس والتنميط الذي وقعنا فيه في المرحلة الانتقالية السابقة؟! إن من يتابع الأدب الروائي المعاصر لن يعثر إطلاقاً على تلك التنميطات والتصنيفات التي وصفت الشخصية الروائية الجديدة في أدبيات منظري ما بعد الحداثة. لن نعثر في الأدب الروائي المعاصر سوى على شخصيات روائية. شخصيات روائية فقط، دون أي نوع من المكياج أو اليافطات التي تحدد إنتماء تلك الكائنات اللغوية إلى أسلوبية محددة واضحة المعالم وثابتة.‏‏

أليس في الرواية المعاصرة ما يؤشر إلى مرحلة انتهى فيها منطق التنميط والتصنيف؟ إن المشهد الروائي المعاصر لا يفاجئنا سوى بتنوع كبير وغير مسبوق في أسلوبيات الكتابة، بحيث يحتوي هذا المشهد على كل عناصر التاريخ الروائي دفعة واحدة. فحتى اليوم نعثر بين الصفحات على كائنات تولوستية ودوستوفسكية وبلزاكية وكافكية وجويسية! تعيش هذه الكائنات بين أخرى قد تشبهها وقد لا تشبهها، لكنها تعيش معنا سوية في هذا العالم الذي لم يكن ولن يكون يوماً متشابه الكائنات. قد يسأل أحدهم ما الفارق بين شخصية من تولستوي أو بلزاك وبين شخصية من جويس أو كافكا؟ ألا يحيل كل نمط من الكائنات الروائية التي نسميها شخصيات إلى حساسية معينة أو فترة تاريخية معينة؟ ربما، ولكن ألا تتجاور في عالمنا المعاصر كل أنواع الحساسيات وأنماط التفكير والثقافات والأسلوبيات في زمن واحد؟! ألا يؤدي كل ذلك التنوع والتجاور والتناقض والتزامن إلى ضرورة تنوع الشخصيات الروائية ذاتها؟ لماذا نقر بواقع التنوع في أنماط وجود الكائنات البشرية في عالمنا ونتردد في الوقت نفسه بالاعتراف بهذا الواقع بالنسبة للكائنات الروائية؟‏‏

كيف سيقرأ الناس والنقاد شخصيات كاتب مثل ميلان كونديرا في المستقبل؟ هل ستتحول كائنات كونديرا إلى أنماط، وهل ستموت بعدنا؟ من المؤكد أن الإجابة التي يؤكدها تاريخ الرواية أن تلك الكائنات لن تموت، بل ستبقى تعيش في زمنها الخاص. وهذا ما يجعل من نزعةالتنميط حركة غير مجدية في قراءة الرواية وفي بناء علاقات حيوية مع شخصياتها. كتب كونديرا كتابه “الستار” الذي قدم فيه مقاربة لتاريخ الرواية وأكد فيه أن الرواية هي التي تكتب تاريخ ذاتها وليس السياسة والأفكار والأيديولوجيا. إن على الرواية أن تكون تاريخاً مستقلاً موازياً للتاريخ وليس أداة لإعادة كتابة التاريخ السياسي. ولهذا فإن الشخصيةالروائية كائن يتمتع بمصداقية تفوق ما تتمتع به الشخصيات التاريخية التي عبرت عالمنا بوجودها المادي في مراحل مختلفة. وتعود تلك المصداقية الخاصة إلى حقيقة أن الشخصية الروائية هي في معنى قراءة للعالم ورؤية له، لكنها رؤية متحررة من سلطة السياسي والأيديولوجي. إنها أداة معرفية من نوع خاص قادرة على كتابة التاريخ الإنساني بلغة عميقة و دالة. ولذلك يبدو أن الشخصية الروائية هي التي تكتب تاريخ الإنسان الحديث، وليس العكس.. لقد أخذت هذه الكائنات مبادرة توثيق تاريخ الإنسان الحقيقي، وهي بذلك تكتب تاريخ ذاتها أيضاً.‏‏

إعداد عن مجموعة مراجعات نشرتها صحيفة الغارديان اللندنية.‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية