تبدو «عزازيل» كأنها أول رواية كتبت في التاريخ، أو كأنها آخر رواية ستكتب. صحيح أن يوسف زيدان كتب قبل هذه الرواية «ظل الأفعى»، لكنها لم تلفت الأنظار بقدر «عزازيل» التي حازت جائزة «بوكر» العربية الرفيعة، التي سبق أن فاز بها الروائي المعروف بهاء طاهر، وذلك بسبب إقدام الروائي الاسكندري على خوض جريء في مناطق غير مألوفة وشائكة في الدين والسياسة والأخلاق، بحيث صدر من روايته الثانية هذه سبع طبعات حتى الآن، وهو يعد العدة لإصدار رواية ثالثة جديدة بعنوان «أيل» )وتعني «الله»( بعد نجاحه الكاسح هذا في رواية من طراز الأكثر مبيعاً، الذي لم يضارعه فيه مؤخراً إلا علاء الدين الأسواني، صاحب «عمارة يعقوبيان» و»شيكاغو». ويوسف زيدان هو مدير مركز ومتحف المخطوطات بمكتبة الإسكندرية في جمهورية مصر العربية.
يشير عنوان «عزازيل» إلى أبليس في اللغة العبرية، والرواية كما يسوق مؤلفها - في محاولة مسبقة لإقناع القارئ بمصداقية أحداثها وشخصياتها واقعياً – عبارة عن ثلاثين رقاً جلدياً، سجل عليها راهب مزعوم يدعى «هيبا» مخطوطات مذكراته باللغة السيريانية، ودفنت في صندوق خشبي مغلق منذ القرن الخامس الميلادي، وعثر عليها في آثار «دير سمعان العمودي» بالقرب من مدينة حلب. والمخطوطات تتضمن سيرة انتقاله بين أديرة الاسكندرية وأنطاكية وصولاً إلى الدير الواقع في أطراف حلب، بما في ذلك الوساوس والإغواءات التي أوقعه فيها أبليس، وهو يحرضه أن يكتب بصراحة وجرأة مذكراته، وهو يقول له: «عزازيل الذي يأتيك، منك وفيك.» بطل الرواية «هيبا» راهب مصري شاب يشتغل في الطب، ارتحل من أسوان إلى أخميم في الصعيد إلى الاسكندرية – حيث شهد وقائع عنف من غلاة المسيحيين ضد من وصفوا بالزندقة – ثم ارتحل إلى شمال الدلتا مروراً بسيناء والبحر الميت، اقام في أورشليم فترة، ثم انتقل ليستقر في دير شمالي مدينة حلب. ورواية «عزازيل» حافلة بالتفاصيل عن الدين المسيحي، وصراعات قساوسة الكنائس المختلفة لدرجة التكفير بين سنتي 391 و 431 (سنة الصدام الكبير بين الكنائس المختلفة، وانشقاق كنيستي أنطاكية والإسكندرية، وعقد مجمع أفسوس الذي حرم نسطور أسقف القسطنطينية،) وما رافق وسبق ذلك من تطرف بعض عامة المسيحيين لدرجة الاعتداء وقتل من اعتبروهم من الزنديقات. والأعجب من الرواية ذاتها أن مؤلفها الدكتور يوسف زيدان كاتب مسلم. بالتالي، فإن خوضه في ملكوت المسيحية تاريخياً بهذه الدقة والأناة يدعو للاستغراب، خاصة وأنه تناول أحد رموز الكنيسة المرقصية وهو البابا كيرولوس العمود البطرك الرابع عشر للكنيسة، والحملة ضد رجل الدين المنفتح نسطور، والتأريخ للكنيسة في القرنين الرابع والخامس ميلادي، فُسِّر من قبل بعض المتعصبين بأنه هجوم على المسيحية، في حين أن زيدان تعامل مع المسيحية كجوهر عبر روايته بكثير من الاحترام. بل يبدو من الواضح أن الكاتب قرأ العديد من المخطوطات القبطية الموثقة، واعتمد عليها كخلفية لأحداث «عزازيل». لكنني أعود لأكرر: إن الجانب التخييلي هو الأهم في رواية «عزازيل»، رغم أن مؤلفها يبدأ بمحاولة إقناع القارئ بأن كتابه عبارة عن جمع وثائق لعمل غير أدبي Non Fiction، لا يد له فيها سوى ترجمتها ونشرها، معقباً إياها بصور فوتوغرافية عن الأمكنة التي عاش فيها الراهب/الطبيب «هيبا»، وذلك تيمناً من زيدان برواد الرواية الإنكليزية في القرن التاسع عشر، دانيال ديفو وريتشاردسون وفيلدنغ، الذين اتخذوا صيغة الرسائل أو المذكرات أو المخطوطات وسيلة لإقناع القارئ بأن كل ما هو تخييلي في رواياتهم حقيقي مائة بالمائة. لكن بعض الشخصيات الكبرى تاريخية، بمن فيها شخصية الفيلسوفة/العالمة «هيباتيا» التي قتلت ومثِّل بجسدها من قبل المتطرفين المسيحيين.
أقامت «جمعية العاديات» في حلب ندوةً احتفت فيها بالرواية عبر آراء عدد من الباحثين والنقاد، كما كتب عن «عزازيل» عدد كبير من النقاد، نذكر منهم د. جابر عصفور، د. شهلا العجيلي، شوقي بغدادي، د. مدحت الجيار، ريمون جرجي، د. يحي الجمل، وسواهم. وقد أجمع النقاد – بغض النظر عن كونهم من المعجبين المقرظين أم من المنتقدين الشاجبين - على أن «عزازيل» رواية غير تقليدية أو مألوفة، تسبح عكس التيار، أو تحلق خارج السرب، بل ذهب بعضهم لمقارنتها بأمبرتو إيكو صاحب «اسم الوردة»، أو بباولو كويللو صاحب «الخيميائي». ويبدو أن قدراً كبيراً من الفتنة أثير من خلال تعليق تهكمي للناقد يحيى الجمل في مجلة «المصري» إذ قال: «ويل لهيبا وليوسف زيدان لو أن المؤسسات الدينية الرسمية قرأت ما خطته يمين كل منهما.» وأججت تلك الشرارة حملة الانتقادات ضد الرواية، التي تصدرها بيان الأنبا بيشوي آخذاً على يوسف زيدان المسلم تناوله لقضايا حساسة وشائكة في صلب العقيدة المسيحية.
بالتأكيد، لم أجد أن هدف زيدان هو إثارة أية نعرات طائفية أو فتن تهدد الوحدة الوطنية، كما رمته بعض ألسنة جائرة ظلماً. إن هدفه أنبل من ذلك وأسمى. ولا شك أنه كتب روايته بلغة بالغة الرقي والإتقان، ويقال إن لغة «ظل الأفعى» قد تفوقها أيضاً في السمووالرفعة، وهي تتناول فكرة قداسة الأنثى في مراحل التاريخ القديم قبل الانتقال إلى الهيمنة الذكورية. أما من حيث الفكر، فلا شك أن زيدان العلماني بعيد كل البعد عن التعصب الديني، وأقرب ما يكون إلى روح التسامح تجاه جميع الأديان على حد سواء. وقد يجد غلاة المتعصبين من المسلمين في هذا حرجاً مثل المسيحيين وأكثر. لكنه يؤكد كمؤلف أنه قصد إلى الدعوة لنبذ العنف، بحيث أورد ذات مرة في مقابلة أبيات الشعر الرائعة لابن عربي: «لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي/ إذا لم يكن دينه إلى ديني داني/ وقد صار قلبي قابلاً كل صورة/ فمرعى لغزلان ودير لرهبان/ وبيت لأوثان وكعبة طائف/ وأوراق مصحف وألواح توراة/ أدين بدين الحب أنى توجهت/ ركائبه، فالحب ديني وإيماني.»
أعتقد أن الهدف الحقيقي من تناول زيدان لموضوعه الإشكالي الغريب هو تسليط الضوء على قضية العنف والتطرف الديني في التاريخ القديم، وفي المسيحية تحديداً، كردٍ على الفكرة الدعائية المغرضة بأن الإسلام في جذوره دين عنف وإراقة دماء. ومن ثم، فإن يوسف زيدان يحترم كل الأديان، بما فيها الإسلام والمسيحية، لكنه استخدم مزيجه من الوثائق والخيال ليمرر فكرة معاصرة بشكل غير مباشر، خاصة في الحقبة التي أعقبت 11/ سبتمبر. ولا شك أن شهادة المطران يوحنا غوغوريوس وهو أرثوذكسي صرح «إنه لم ير أحداً استطاع أن يغوص في عالم اللاهوت مثل كاتب /عزازيل/، وإن الرواية لا تعرض فقط لهذه المشكلات، إنما هي تطرح حلولاً لها، وهي حلول تستحق أن نفكر فيها طويلاً.» والحق يقال، لم أجد صلة تذكر بين رواية يوسف زيدان ورواية سلمان رشدي «آيات شيطانية»، التي أثارت في يومها قضية مدوية، أهدر آية الله الخميني على أثرها دم مؤلفها. كما أن طراز رواية زيدان البعيد عن البوليسية والتشويق يختلف كلياً عن رواية دان براون الشهيرة «شيفرة دافنشي»، التي أغضبت الكنيسة الباباوية أيما غضب. وهي أيضاً مختلفة عن رواية أديبنا الكبير الراحل نجيب محفوظ «أولاد حارتنا»، التي تناول فيها بملء الاحترام الأديان الكبرى للبشرية. لكنها تماثل من حيث المقاربة بعض أعمال الأديب المعروف جمال الغيطاني، الذي لجأ إلى التقنية نفسها في الإقناع بمصداقية الأحداث التاريخية التي يتناولها، خاصة في مجموعته «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» وروايته «الزيني بركات». ولكن ثمة شيء في رواية «عزازيل» يذكر برواية كازنتزاكي عن السيد المسيح، التي حولت إلى فيلم سينمائي إشكالي أخرجه سكورسيزي بعنوان «آخر إغواءات السيد المسيح»، وهو يتعلق برؤى جنسية الطابع لنبي اشتهر بالطهارة وتمجيدها، واعتبر من المؤمنين به بأن هتجسيد لصورة الرب على الأرض. في رواية «عزازيل» يمارس الراهب «هيبا» الجنس مع امرأتين، مرة مع وصيفة حسناء في مصر، ومرة مع أرملة فتية في الدير قرب حلب، في مشاهد بالغة السخونة الحسية على طريقة «ألف ليلة وليلة»، بل لا يكتم شعور افتتانه الجنسي بالفيلسوفة/العالمة «هيباتيا»، دون أن يتاح له مجال للاحتكاك معها جنسياً، الأمر الذي أجهض حبكة جانبية في غاية الأهمية والإثارة الدرامية، كان يمكن أن تتفاعل في صراع بين الفيلسوفة ومريدتها عشيقة هيبا. كما تخلل الرواية ظهور سريع لفتى غريب يعترف للراهب على قارعة طريق ريفية بأفظع الآثام، بما فيها ممارسة الجنس مع الحيوانات والمحرمات، وكأنه تجسيد للشيطان عزازيل في شكل مخلوق بشري، لكنه يمر في مشهد عابر، ثم يختفي للأبد. لكن الفتى في حد ذاته ليس بذي أهمية درامية لو ارتبط ظهوره بشكل أوثق مع أحاسيس شاذة أو منحرفة تتولد عند هيبا، أو يضبطها لدى سواه، لكن ذلك لم يحصل.
هنا تلوح لنا مشكلة رواية «عزازيل» الأساسية، وهي مشكلة كونها متجزئة، أي تفتقر إلى ترابط كبير أو نمو عضوي، سواء في الحبكة أم في تصوير الشخصية المحورية. في الواقع، نلاحظ أن كل رقٍ أو عدد من الرقوق يشكل حبكة ما، أو قصة قصيرة في بناء رواية «عزازيل» المتفكك، التي يعوز متانة البناء. أما ثاني المشاكل، فهي أنها ليست رواية حبكة أو رواية فعل، فهل هل رواية شخصية؟ كان بإمكان مؤلفها أن يجعلها رواية تستغل أسلوب «تيار الوعي» لو شاء، بحيث يختلط الاعتراف بالوسواس الخناس، تماماً كما جسَّد ببراعة منقطعة النظير أحلام، بل كوابيس هيبا، وقد سقط صريع الحمى، بكل ما امتزج فيها من رؤى سوريالية. لكن هيبا في ثنايا الرواية يبدو وكأنه مؤرخ في أغلب الأحيان، وهو لا يتخذ أفعالاً، بل نراه غالباً مفعولاً به، أي عرضة لإغراء أو فريسة لشهوة. أما ما يعتزمه ويقرره، فهو نادراً ما يفعله. إنه ليس شخصية مركبة بين القديس والشيطان، كما تشير عبارة عزازيل نفسه «أنا منك وفيك،» وهي عبارة عميقة المغزى في علم النفس التحليلي، تحمل الإنسان كامل مسؤولية حريته حسب المفهوم الوجودي. يتركنا يوسف زيدان بعد قدر كبير من الإثارة والترقب في مقاطع متعددة من الرواية خائبي الأمل، لأن البطل لا يفعل شيئاً سوى أفعال البر والزهد والتبتل والعلاج، في حين أنه يقع بسهولة في شباك الإغواء. بل يحرم المؤلف هيبا من موقف صريح وواضح وفعال من القضية الرئيسة في العمل، وهي الصراع الكنسي بين تيارين حول مصداقية حكاية ولادة السيدة العذراء ليسوع، في حين يؤمن آخرون بنظرية الأب والإبن وروح القدس. بغض النظر عن النواحي الفكرية، وتلك مسألة اجتهادية معقدة، إلا أن الرواية ذات الأسلوب الأدبي الممتاز تقف دون وعد طموحها، لأن مؤلفها يحرمها من انطلاقات خياله الحرة لتدعيم الخطوط الدرامية، وتحرير الشخصية من محدودية الراوي/المؤرخ ليقدم اعترافات أكثر جرأة، ربما تضمنت صراع الشك، ليصل بطله من خلاله إلى اليقين، أو العكس. كل النقاط التي نوهنا إليها لا تقلل من كون رواية «عزازيل» رواية فريدة من نوعها وطرازها، رفيعة المستوى اللغوي، مشوقة في لوحاتها، وذات إسقاطات ذات أهمية معاصرة في تناولها لظهور حركات تطرف عنيفة ضد من اعتبرهم العامة آنذاك زنادقة لمجرد تفكيرهم العلمي الحر. بالتالي، تنبثق روعة رواية «عزازيل» من كونها تحمل رسالة مزدوجة لجميع الأديان، وتتضمن إيحاءً بأن التطرف مرفوض ومدان في كل زمان ومكان. من قرأ «عزازيل» سيتوق بلا شك للاطلاع على رواية «ظل الأفعى» السابقة، ورواية «أيل» اللاحقة، لأن الدكتور يوسف زيدان روائي استطاع أن يحقق المعادلة الصعبة في جذب اهتمام القراء العاديين والمثقفين على حدٍ سواء، وبذلك تفوق على بعض معاصريه، ممن توجه بعضهم إلى إرضاء الذوق العامي بدغدغة جنسية سوية أو شاذة، بينما اتجه بعضهم الآخر إلى الاقتصار على مخاطبة النخبة ولو خسر عموم الذوق السائد.