والتكيف مع تبدلات المناخ، وتجميع أسباب العيش فيه وتخزينها وحمايتها من السرقة .. الخ.
مع تطور الحياة، وازدياد وتشعب حاجات الإنسان، أخذ البيت جلَّ اهتمام الإنسان، فأخذ يُحسن فيه، موسعاً ومطوراً وموجداً كل أسباب الراحة في مرافقه. وهكذا وُجد البيت، فالدار وملحقاته، ثم كان القصر، والقرية، والمدينة بشوارعها وأسواقها ومعابدها وحماماتها وخاناتها وغير ذلك من المباني الخدمية المختلفة، وقد رافق هذا التطور الذي شمل العمارة بمظاهرها المختلفة، تطور مماثل في الفن والأدب والحرف والصناعات اليدوية وغيرها، استفادت منه العمارة وأفادتها بالمقابل.
العمارة إذاً، بدأت في حدود الحاجة والمفيد والضروري لحياة الإنسان (أمنه واستقراره وراحته وسهولة عيشه)، غير أنها ما لبثت أن حُسّنت بإضافة الجمال والرونق والذوق والابتكار إليها، بهدف توفير المتع البصريّة للإنسان التي تؤدي بدورها إلى تكريس السعادة، والراحة والهدوء والانطلاق، لا سيما وأن الإنسان يمضي جل وقته في مسكنه. وبالتدريج، تابعت العمارة تطورها لتصبح في بعض الأحقاب التاريخية عملاً فنياً جميلاً ومدهشاً، فيه من الإعجاز والفخامة والهيبة والجمال والفن أكثر مما فيه من المنفعة الماديّة المباشرة.
عكس هذه الصورة، عادت لتظهر في وقتنا الحالي، خصوصاً في بلادنا العربية، فقد بدأنا نرى عمارة دون جمال، وبيت دون فن، وشارع دون تنظيم، فالمهم أن تؤدي العمارة غايتها النفعيّة الماديّة المباشرة، والشارع ليسهل عملية الوصول إلى هذا البيت، أو تلك البناية ليس إلا، ضاربين بالتنظيم والجمال والرشاقة الخارجية للعمارة عرض الحائط، فالمهم تحقيق الغايات المفيدة حتى ولو على حساب الصفة الجماليّة التي لا تقل أهمية للإنسان عن الغاية الأخرى، وبالقليل من الإمكانيات يمكن الجمع الموفق والمنسجم بين الغايتين أو الوظيفتين، ذلك أنه من الخطأ الفادح، أن نخطط لتأمين سكن مفيد وصحي ولا نهدف لأن يكون هذا السكن مريحاً وجميلاً في آنٍ واحد.
والمنشأة المعماريّة كالنغمة في السيمفونية، أو اللون في اللوحة، أو الكلمة في النص، يجب أن تُشكّل مع بيئتها ومحيطها وضعاً منسجماً بحيث تبدو وكأنها جزء لا يتجزأ من هذه البيئة وهذا المحيط، رغم ما قد تنفرد به من خصائص فنيّة وتعبيريّة ابتكاريّة، تأكدت وبرزت مع تطور المجتمع وتوزيع العمل، وتالياً تطور وتشعب قدرات الإنسان الشخصيّة التي أخذت طريقها إلى جملة من الفعاليات والأنشطة الهادفة إلى استيعاب الواقع جمالياً، عبر مجال خاص هو الفن الذي انضوت تحته العمارة والفن التشكيلي والتطبيقي والحرف والصناعات والمشغولات اليدويّة. وقد ارتبط بعضها بالعمارة، ونما وتطور بين أحضانها، كالنحت والرسم والزخرفة والقاشاني والفسيفساء والزجاج المعشق والنجارة والسباكة والنسيج، ومؤخراً السينما والمسرح ... الخ. لكن مع الأسف، ألغت (أو أعطبت) حضارة الإسمنت الباردة، وميكنة المشغولات اليدويّة،
وحتى بعض أنواع الفنون التعبيريّة التقليديّة العريقة طاولتها الميكنة) القسم الأعظم من هذه الحرف والمهن والصناعات اليدويّة الأصلية، التي ارتبطت بالعمارة، وعاشت بين حناياها أحقاباً زمنيّة طويلة.
من جانب أخر، تتعدد خامات وأشكال وهيئات ووظائف الفنون والحرف الشعبيّة من بلد لآخر، ومن زمن لآخر أيضاً، لأن جملة المسببات الموضوعيّة والطبيعيّة والإنسانيّة، تلعب دوراً رئيساً في تحديد شكل وخامات ووظيفة هذه الفنون والحرف والصناعات التقليديّة الشعبيّة مكانياً وزمانياً، ومرد ذلك التداخل الجميل والحميمي القائم بين حاجة الإنسان المادية وحاجته الروحيّة.
وكما هو الأمر بالنسبة للعمارة التي جاءت بمواد وخامات بيئتها، وبالشكل أو التصميم الذي يتوافق وينسجم مع هذه المواد والخامات، وفي نفس الوقت، مع أفكار ومعتقدات ساكنها ومتطلبات مناخ منطقته، كذلك الأمر بالنسبة للحرف وللمشغولات اليدويّة، التي جاءت هي الأخرى متوافقة مع البيئة: مناخاً ومواد ومعتقدات.
فحرف ومشغولات المناطق الحارة، جاءت أسيرة حاجة الإنسان إلى الرطوبة والظل، عكس ذلك تراه في صناعات المناطق الباردة التي تنشد الدفء للإنسان. وهكذا نجد أن الإنسان، وبشكل عفوي وتلقائي، نفذ عمارته وحرفه ومشغولاته اليدويّة، بالمواد والخامات المتوفرة في بيئته، ليرد من خلالها، على هذه البيئة، وليجعلها متوافقة ومنسجمة معها ومع حاجاته الماديّة والروحيّة، وهي حاجات تختلف من إنسان لآخر، ومن بيئة لأخرى أيضاً، للتأكد من هذه الحقيقة، يكفي أن نلقي نظرة على ما تفرزه المخيلة الإنسانيّة (لا سيما الشعبيّة التي لا تزال تحافظ على بكورتها وعفويتها المتوافقة وبيئتها) من ابتكارات وتصاميم تغرد خارج سلب المألوف والمكرور، أو بتعبير آخر: تتمرد على الطراز الواحد المتنقل من بلد إلى آخر، وكأنه ختم بيد شيطان أخرس، يختم به العمارة المعاصرة في الجبل والساحل والبادية، والمدينة والريف، وآسيا وأوروبا، وإفريقيا وأمريكا. في البلاد العربيّة والهنديّة والصينيّة والروسيّة واليابانية والأوروبيّة والأمريكيّة ... الخ، دون مراعاة لأي خصوصيّة بيئيّة بشريّة وطبيعيّة.
رغم جنون ختم العمارة الواحد، وانهيار الحدود أمام تنقلاته وانتشاره، لا زال هناك من يحاول أن يتطلع حوله، ليوظف ما ترفل به بيئته من مواد وخامات (وأحياناً نفايات) في إشادة منزله الخاص والمتميز من الخارج والداخل، تقوده في ذلك، ذائقة جماليّة مشبعة بتفاصيل تراث غني وثر ضارب في الزمن الموغل في القدم. تراث أفرزته البيئة بكل تلاوينها ونكهاتها وخصوصياتها. ولكي لا يكون حديثنا عن الابتكارات المتميزة، في مجال العمارة الخارجيّة والداخليّة، نظرياً، نسوق الشواهد والأمثلة المرفقة صورها مع هذه المادة والتي تغطي مناطق مختلفة من الشرق والغرب، والشمال والجنوب، فوق كوكبنا الذي تسعى العولمة البصريّة جاهدة، لتوحيد ملامحه، وسلوك شعوبه وأممه.
أنموذج رقم 1
تعلقت العين العربيّة ولا زالت، بالألوان الزاهيّة والمتضادة، وأدخلتها بأكثر من شكل وصيغة، إلى عمارتها وفنونها ومشغولاتها، مثال ذلك، هذا الركن الفريد، في أحد البيوت في المغرب العربي، حيث احتضن عالماً عجيباً من الأشكال والعناصر والألوان، أحاله إلى لوحة وحشيّة تجمع بين المفردات الهندسيّة والنباتيّة، وبين الحار والبارد من الألوان التي نُفذت بعفويّة واضحة، تعكس الكثير من أفكار وعادات وذائقة الإنسان الشعبي في هذه المنطقة من العالم.
أنموذج رقم 2
ينتمي هذا الأنموذج إلى البيئة اليابانيّة والصينيّة، وهو عبارة عن بيت أسبغ عليه خيال صاحبه، عالماً سوريالياً عجيباً، يدل بسهولة ويسر، على البلاد التي جاء منها، ذلك لأنه التصق بقوة، بفنونها ورموزها وموادها وخاماتها، بدءاً من الأشكال الأفعوانيّة والتنينيّة، وانتهاءً بهذا التنوع الثر من الخزفيات والسيراميك الذي وُظف لأكثر من مهمة بصريّة ودلاليّة.
أنموذج رقم 3
تتداخل في هذا الأنموذج من العمارة الداخليّة، أو كما شاع استعماله (الديكور) الداخلي الروح الإفريقيّة والأمريكيّة اللاتينيّة، وهو بسيط وطريف ولافت للانتباه، بمادته الأساسيّة وهي فوارغ معدنيّة لمشروبات مختلفة، وزّعها مُشكّلها على الجدران، وصنع منها مقاعد، بطريقة جميلة ومدروسة الألوان، ما خلق حالة بصريّة شديدة التوافق والانسجام والتعبير والطرافة، إن لناحية المادة، أو لناحية التشكيل والتوظيف.
أنموذج رقم 4
تتجلى بوضوح، في هذا الأنموذج الطريف، روح إفريقيا الحارة والغنيّة بفلكلورها الشعبي المرتبط بقوة، بطبيعتها المتفردة. فهنا مزج الفنان المشكّل، بين عناصر الطبيعة من نبات وجلود حيوانات، وبين مشغولات الإنسان الشعبي الإفريقي من الحلي والتزاويق، وفي نفس الوقت، تطل (المعاصرة) بأكثر من صيغة، لنجد أنفسنا أمام تأليف بصري ساحر، مفعم بالقيم الفنيّة المتفردة في مادتها وتشكيلها ودلالاتها.
أنموذج رقم 5
تبدو في هذا الأنموذج، وبوضوح، حضارة الإسمنت التي بدأها الإنسان الأوروبي، وعندما شعر بضغطها الثقيل والمتعب على أحاسيسه وروحه، حاول إدخال الطبيعة إليها بأشكال مختلفة، للتخفيف من وقعها على بصره وبصيرته. من ذلك، أحواض وأصص الورود والنباتات والشجيرات القزميّة، وأحواض السمك، ومناهل المياه المختلفة. وفي هذا الأنموذج، محاولة لإدخال شجرة كاملة، إنما بأسلوب عجيب وغريب، حيث نزلت من السقف لتشغل فراغاً كبيراً، في بهو واسع. والأعجب، وجود ملامح للحياة فيها، متمثلة بأغصان وأفنان خضراء، لا ندري كيف يصلها الماء، لتستمر فيها الحياة وتنمو؟!!