على الرغم من ظهور محاولات جادة لبعض الباحثين العرب، لكنها لا تخلو من تفاؤل أو تشاؤم بحسب موارد النصوص وتفكيكها على نحو لا يظهر لدينا النتائج المعكوسة المرتجاة من معالجة هذا النوع الصعب تركيباً ثم تفكيكاً، دون الاعتماد على منطق التحليل والتركيب من ناحية عقلية، كما هو مشهور لدى الفلاسفة بحق. ومن ذلك محاولة الألوسي في الدراسة التي قصد منها قراءة )عقلانية( وفق إشكاليتها كما هي في الواقع الفكري العربي. وفي الاتجاه الآخر نلاحظ التخصيص في ما قدمه العقل العربي في كل اتجاهاته التي تظهر محكومة بين الأصالة والمعاصرة من الناحية النهضوية منظوراً إليها )عقلانية( ذات جذور قديمة ووسيطة وحديثة في الفكر العربي، وقد نتلمسها في فكرنا المعاصر الآن.
وهنا نلمس بوضوح أنواعاً مختلفة من الخطابات الفكرية العربية، والكيفية التي توفرت لها لتكون خطاباً يقينياً مرة، وخطاباً ظنياً في الثانية وخطاباً مموهاً في الثالثة، وخطاباً بلاغياً في الرابعة، وخطاباً جدلياً مقبولاً أو معكوساً واقعياً أو خيالياً، في الخامسة. وهذا هو منطق الجدل في الأنواع الخمسة من الخطاب الفلسفي العربي كما يظهر من أعمال الباحثين في (العقلانية)، وكأنهم جميعا يركضون وراء سراب، فلا يصلون إلى نهاية مقررة له؛ في ذات الوقت الذي يسعى باحثون آخرون لإيجاد صلة بين ما نفهمه من تشريح العقل وتفكيك خطاباته برمتها في الفكر العربي المعاصر وفق مناهج لا تخلو من العاطفة مرة، ومن الوجدانية مرة ثانية ومن العقلانية فعلاً مرة ثالثة، كما نلاحظ ذلك في دروسنا المختلفة للعقل العربي خارج قراءة التاريخ بمعايير الزمان والمكان، والحقيقة والباطل، والتفسير والتأويل. وهنا الكارثة في التناقض الذي نجده في استنتاجات الباحثين في الخطاب الفلسفي المعاصر والمستقبل، فيصبح هاجس بعض المفكرين استشراف ما ستؤول إليه الفلسفة العربية، (في حالة إقرار وجودها المعاصر) في المستقبل، ثم نلاحظ محاولة أخرى جريئة في تحقيق تصورات عقلانية مستقبلية قائمة على أسس اجتماعية للواقع العربي الراهن. لكن ذلك كله لم يكبح جماح الرغبة في الوصول إلى فلسفة عقلانية تقوم على مناقشة منطقية جدلية للعقل النهضوي العربي وتحققه مستقبلاً من منطلق التأصيل الفلسفي العربي والحداثة الفلسفية. وهذا المنطق يخالف منهجياً ما نجده في النظرة إلى ما توصل إليه باحثون آخرون اعتمدوا مناهج نقدية للفلسفة أو تاريخية للفلسفة أو تحديث الفلسفة أو استشراف ما ستؤول إليه الفلسفة مع اختلاف كبير في فهم النهضة العربية ودور العقل في تقويم دعائم تأسيس «عقلانية» جديدة أن كان من منظور نقدي، أو من منظور تاريخي تراكمي لإبراز عناصر النمو في العقلية العربية الحديثة، أو من منظور تحديث الفلسفة منهجياً على الرغم من الواقع العربي الراهن وصور التحدي المختلفة لمسارات الفكر فيه عامة، والعقلانية بوجه خاص، أو من منظور استشرافي للعقلانية العربية التي تقيدها السلطات المختلفة لتنبثق عنها رؤيا جديدة في القرن الواحد والعشرين.
والآن نحن أمام أزمة حقيقة لوعي إشكالية الفلسفة العربية المعاصرة في اتجاهاتها المختلفة: المادية، العقلية، الروحية، التكاملية، الوجودية، الشخصانية، والعلمية، فكلها سادت مناهج المفكرين العرب في القرن العشرين وبوجه خاص العقود السبعة الأولى منه. ويأتي هذا الكلام بلا طائل بعد أكثر من ثلاثين عاماً من إدراكنا لهذا التعدد في الاتجاهات بحسب تصنيف جميل صليبا.
لكن من وجه آخر يمكننا القول هنا، أن ما هيمن على كل هذه الاتجاهات ما كانت منهجه: مادية أو عقلية أو روحية، ولا نعلم من أين يبدأ الباحثون منهجياً في مثل هذه المصادرة الكبرى لفعاليات العقل في الفكر العربي المعاصر؟ لهذا لا بد من «أن يعود العقل ليسير حياتنا من جديد، ولنستعد له في مواجهة مشكلات الواقع التي يعنيها المجتمع العربي اليوم». ومعنى هذا كله، غياب العقلانية عن الواقع العربي المعاصر، ومن شروط عودة العقل في أن يعتمد «منطقه المستند إلى العلم والمنهج التجريبي والمحاكمة العقلية والإقناع والدليل، مقابل الاعتماد على المناهج غير العقلية التي تقيد العقل أو تتجاوزه أو تضعه لصالح التقليد أو الحدس أو المعارف المتعالية على العقل». وكأن هذه الشروط لا تتحقق إلا بتوفر الحرية، وفهم الحقيقة، والتدقيق بين النقل والعقل، والموقف العقلي من التراث.
لذلك نلاحظ أن كل الإمكانيات المتاحة للفكر العربي الحديث، منذ بدايات النهضة الحديثة حتى الآن، لم تتح للعقل الفلسفي استيعاب جوهره ومغزاه لضياع القدرات الذاتية والموضوعية في الفصل بين الفلسفة والدين فكأنهما يصدران عن عقل واحد متحد غير قابل للانفصال، كما لو أنهما اثنان غير منفصلين غير قابلين لتبادل الاتصال. لذلك فالأقوال التي تصدر عن الباحثين في هذه المعضلة تدل على عدم إدراكهم هذا المغزى الذي نفهمه من هذه الجدلية، فيقررون العكس؛ وهذا أمر يدل على محنة العقلانية العربية التي تخالف العقلانية الغربية من هذا المنظور غير الدقيق إن كان في برهانه أو في جدله.
وبناء عن ذلك نلاحظ أن كل من يفكر ويبحث ويكتب يمكنه أن يدلي بدلوه في كل ما يتصل بالعقل وبالعقلانية حتى ولو كانت الأدوات التي تستعمل في استنباط الفكر أو استقراء الأفكار بالتوجه سليمة منطقياً. وهنا نعاني، منذ عهد وسنبقى دائماً، من التوجه غير الفلسفي، بل الخطاب الأسلوبي للإنشاء لا الخطاب العقلي للأفكار؛ وهذه مشكلة المشاكل في الخطاب الفلسفي العربي المعاصر. ومن هذا يلاحظ ما يقوله بعض الباحثين: إن العقل والعقلانية، إنما كانا متوافرين في التراث الفلسفي، وهذا تحوير للموروث بما يتفق ونزوع الباحث إلى تهويل موضوعات فيتصور أنها كانت موجودة في الأصل، وهو في الحقيقة وهم يأتي من باب البكاء على الأطلال في الشعر العربي القديم. لذلك، يتفجر هذا النزوع العاطفي ليأتي بأحكام معاصرة تجعل من العقل والعقلانية في الفكر العربي المعاصر متطابقة في الصراع مع الذرائعية عامة والنفعية منها بوجه خاص. وهذا الاتجاه، برأينا، إسقاط للعقل والعقلانية العربية اليوم، خصوصاً عندما نصفها بالعقلانية النقدية وهي غائبة عن الساحة الثقافية كاملة، وكأن القائل هنا يريد أن يذهب إلى الصراع بين فريقين: أحدهما يرى النفع غاية الفضيلة، وأن يرى الآخر النقد غاية العقلانية! وهذا على الافتراض يجعل منا في مفترق طرق لا ندري إلى أين نتجه لنوازن بين العقلانية الغربية والعقلانية العربية، خصوصاً عندما نتحدث عن النزعة الفردية التي تتمثل فيها كل خصائص الإنسان الفرد بمعناه المادي الذي تحكمه الغرائز والعواطف والأحاسيس والمشاعر، وعلى نحو مخالف لما نعرفه من مفهوم الإنسانية التي ترفع الإنسان مع الآخر إلى النزعة الاجتماعية التي تظهر معه صورة الإنسان الذي تحكمه العقلانية وبمنطق يدركه الإنسان من علاقته بالآخر والعالم. وهنا يظهر لنا أن من الصحيح القول بأن الفرد يصارع الفرد، لكن الإنسان لا يصارع الإنسان. فإذا كان حكم الأول عندنا هو الحكم على الظواهر المادية والكيفية التي تؤثر فيه الطبيعة في ما يصدر عنها من السلطات المختلفة لتقييد نزعته العقلية، فإن الثاني عندنا هو الحكم على الظواهر العقلية والكيفية التي يؤثر فيه العقل في ما يصدر عنه من السلطات المحكومة بمعطيات العقلانية، وهي ليست بالضرورة نقدية، فقد تكون تحليلية، تركيبية، جدلية، وغيرها، وكل واحدة من هذه الاتجاهات تساعد العقل على اتخاذ القرار وفق منطق الحكم. لكن هذا كله الذي نتحدث عنه بعيد كل البعد عن ما يدركه بعض الباحثين في العقلانية العربية الآن؛ لأن الوعي بالسلطات التي تقيد العقل في الفكر العربي المعاصر تأتيه من خارج في معطيات المصالح، والمنافع والسقوط إلى مرتبة الانحطاط في السياسة والاقتصاد والاجتماع والفن والثقافة، وكل المناحي الأخرى التي يمكن أن تجعل الفرد إنساناً في الشكل وليس في الجوهر؛ وهذا ما نراه من مستقبل الإنسان في القرن الواحد والعشرين.
والآن إلى أين ينتهي بنا الحكم على الفوارق التي تبدو بين فهمنا للإنسان من حيث هو فرد غربي الفكر، وآخر هو عربي الفكر؟ وإذا ما بقينا نبحث بنفس الأساليب التي زرعها فينا المفكرون الأوربيون في القرن التاسع عشر، فسنجد أن الإنسان العربي اليوم يتعرض لما يتعرض له الإنسان في غير العالم الغربي، في كل مكان، وهي حالة الفوضوية الفكرية التي لا تصدر إلا عن غياب العقلانية والمنهج. ولهذا السبب وغيره من الأسباب يرى الباحثون أحياناً وهم يعتمدون على هذه الفوضوية الفكرية، أن العقلانية الغربية تمتاز عن العقلانية العربية بما يمتلك من قدرات ذاتية للحرية، وموضوعية للديمقراطية في المجتمع العربي، فتصبح الحرية وبالاً على الفكر العربي المعاصر، وكأن غياب العقلانية العربية أتاح لاستبدال الحرية بفوضوية السلطات الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية بالتبعية الفكرية للغرب، أو الوقوف على الضد من الواقع الإنساني المعاصر الذي لا يشمل العقلية الغربية بل يمتد تأثيره إلى العقلية العربية لأنه شامل العقلية الغربية للعقلية الإنسانية جمعاء.
وهؤلاء يفسرون لنا مفاهيم مزدوجة للحرية وإشكالاتها ولا يختصرون الطريق إلى فهم أن النزعة الإنسانية للحرية هي سلطة مقيدة بالعقل منذ عرف الإنسان الآخر وعرف أيضاً كيف يوظف الحياة كاملة بينه وبين الآخرين، وكيف أن لهؤلاء الآخرين أفكاراً قد تخالف آراءه الشخصية الذاتية. فإذا كان الفكر الإنساني منظوراً على الحرية، فإشكالية الحرية عند الأفراد والجماعات تابعة لأنواع النظم السياسية والاقتصادية والإدارية والثقافية التي ينضوي تحتها هؤلاء الأفراد والجماعات.
من هنا نفهم لماذا تبدو لنا اليوم معطيات العقل الإنساني تختلف في مؤثراتها بين الفرد الغربي والفرد العربي من جهة، وبين المجتمع الغربي والمجتمع العربي من جهة أخرى. كل ذلك تبعاً للمناخ الطبيعي الذي يمارس فيه الفرد الغربي ومجتمعه كل فعالياته بعد عصر النهضة الأوربية، وعصر الاستعمار التقليدي وعصر الصناعة، ثم عصر الحداثة في الأساليب المنمطة وفق حركة التقدم العلمي وقبله الروماني واليوناني. وفي المقابل نجد تكريس الفرد العربي ومجتمعه بعد خمسة قرون من التراجع في العقلانية العربية وانقطاعها نتيجة انحسار الدولة العربية، والخضوع للاستعمار الشرقي (عثماني - فارسي) والاستعمار الغربي ؛ ثم التجزئة في الأرض، واستلاب الأرض والفكر والانتماء بتحريف الثقافة من جدلية العروبة والإسلام إلى جدلية الوطنية والمصالح مع دول الغرب، مع تدرج بطيء في العلم، وطفرة في التكنولوجيا في مكان مع فقر كامل بكل أسباب الحياة في مكان آخر، وغياب العدالة الاجتماعية والاقتصادية بعد غياب العدالة السياسية في المجتمع العربي؛ هذا كله، على الرغم من المحاولات الجليلة للحركة النهضوية التي لم تستمر، وحركة الانبعاث الجديد التي تتلكأ بفعل الفوضوية الفكرية التي يعيشها المجتمع العربي بين التراث والتمسك به، وبين الحاضر وعدم الاطمئنان إليه، وبين المستقبل الذي لا يبدو الفرد العربي فيه ما يتجلى من موروثه العقلاني في عصر الحضارة العربية في الإسلام، وعصور الحضارات المختلفة القديمة قبل الإسلام.
ومن هذا نأتي بلا أدنى ريب إلى الحقيقة التي لا يعرف بها غير واحد من مؤرخي الفكر العربي المعاصر، وهي أن الفارق الصحيح بين الفرد الغربي والفرد العربي، أن من مهام الأفراد في الغرب أن يصنعوا العقلانية التي ظهرت بوادرها بانتقال ابن رشد إلى أوربا اللاتينية حتى اليوم؛ بينما لم يستطع الأفراد في وطننا العربي أن يصنعوا العقلانية التي آلت إلينا من أوربا نقلاً وتحويراً وبعقلية العربية.
لهذا يأتي حديثنا دائماً عن الأصالة والمعاصرة مليئاً بالتصورات غير المطابقة للواقع العربي، ذلك لأن الواقع العربي الراهن يحتاج إلى ثورة تنوير على نمط التنوير الأوروبي. لكن هذا لم يحدث للآن، وإن ظهرت بوادر حدوثه مرات عديدة في مواجهة التحديات الخارجية نجد التمزق في الجسد العربي يزداد نتيجة حتمية للفوضوية الفكرية التي تعصف بالعقل العربي المعاصر.
فالعقل الغربي يفعل السلطات التي لا يحددها المجتمع الغربي على الرغم من الزلازل التي تعرض لها العمران الفكري الفلسفي الأوربي خلال القرون الخمسة الماضية، فتكون بهذا عقلانية مستقرة غير مقيدة. فيما نجد العقل العربي تفعله السلطات التي يحددها المجتمع العربي على وفق الواقع الراهن المقيد بالنصوص، فتظهر عقلانية غير مستقرة، مضطربة، حضرت فيها الأزمات المادية والمعنوية التي مرت بها الأمة العربية، خلال القرون التي أعقبت سقوط بغداد 1258 في المشرق وسقوط غرناطة 1492 في المغرب، وهي أزمات تمنع ظهور الخطاب العربي على نحو عقلاني ذاتي وموضوعي مقبول، لكنها لا تصد تحلي هذا الخطاب بخصائص العصبية والتبعية والانحلال والسقوط في دائرة التقليد التي صنعها بتأثير الغرب من جهة، والانبهار الثقافي والفكري بالاستشراق من جهة أخرى.