الهويّةَ الجماعيّة للكاتبات، حتّى أصبحت الكتابة في المرحلة الأخيرة، التي أسمّيها مرحلة الخصوصيّة الثقافيّة، نسخة معدّلة من كتابة الكاتبات الأوَل، تتقاطع معها بخطوط شفيفة كالفرق بين بنت اليوم وجدّتها الرابعة مثلاً. إنّ الأعمال الفريدة اليوم، والتي دخلت مرحلة الخصوصيّة الثقافيّة لا تنبتّ عن جذورها بشكل أو بآخر، كما لا تنبتّ عن واقعها، وحيث أنّ الفنّ نشاط اجتماعيّ، فهو» شيء مستحيل من دون الإلمام بالواقع... فالفنّ، إذ يهدف لصياغة الإنسان وصياغة موقفه إزاء الواقع، فإنّه يعكس بالضرورة ظواهر الحياة بالارتباط مع علاقات الناس بهذه الظواهر. ويدرك الفنّ هذه العلاقات ذاتها، محاولاً كشف تلك العلاقات الخاصّة لفئة ما... ومحاولاً الكشف عن جوهرها ومنابعها واتجاه تطوّرها».
إنّ نصوص الخصوصيّة الثقافيّة النسويّة ليست ولادات منفردة منعزلة، بل هي حصيلة سنوات طويلة من التفكير المشترك للناس، ومن تجارب النساء، حيث تقف خبرة المجموع وراء الصوت المنفرد.
2- الأمومة الأنثروبولوجيّة والأمومة الجماليّة:
لا يعني الولاء للنموذج هنا حالة تناسخيّة، بل حالة معدّلة ومطوّرة عن النموذج، لكن من غير الانقطاع عن الجذور، ويمكن تسمية هذه الحالة بالانزياح عن النموذج. إنّ هذا الانزياح عن النموذج، والارتباط به في آن اقتضاهما ما يمكن تسميته بالحالة الأموميّة على الصعيد الأنثروبولوجي للثقافة من جهة، أي تكرار التجارب، أو تشابهها، والحالة الأموميّة على الصعيد الجماليّ، أي كتابة النساء الأدبيّة المتوارثة.
يعدّ التوق الفرديّ أحد أهمّ العوامل التي تصنع التطوّر، وتضع النسخة المعدّلة في الكتابة التي نتكلّم عليها، وتستخدم (وولف) المجاز الأموميّ لتطلق مقولتها الشهيرة: «نحن كإمرأة، مع أنّ ذلك ليس دليلاً على تحرّرها من التوق الفرديّ، لكنّ التفكير عبر أمّهاتها منحها هويّتها الجماعيّة الأولى، فتوسيع الـ «نحن» في عالم كاتبات الماضي والمستقبل هو الذي نما في نهاية المطاف ليعبّر عن كلّ ضحايا الاغتراب والاضطهاد».
يمكن القول إنّ التوق الفرديّ استطاع أن يخلق كتابة نسائيّة مختلفة عن كتابة الرجل من جهة، وعن الكتابة النسويّة التي تعتمد التقاليد الأدبيّة المتوارثة من جهة أخرى، إذ دفع التوق الفرديّ كتابة النساء في بعضها إلى تجاوز النماذج الروائيّة المكرّسة في الكتابة النسويّة، عبر تجاوز الثيمات النسويّة الرئيسة في الكتابة، مثل اللعب على وتر الجسد، والمساواة مع الرجل، وفتح ملفّات التحرّش والاغتصاب، والتصريح بالنموذج المضطهد، وتكريس شعريّة اللغة القائمة على علاقة اللغة باللغة.
يعيد التأمّل في التجارب التي تنتج اليوم، طرح السؤال المركزيّ في الكتابة النسويّة، الذي يتجلّى في مدى خروج الكتابة النسويّة على النسق الثقافيّ المسيطر، أو انضوائها تحته، ممّا يشرع نافذة على سؤال آخر يتعلّق بالأفق الذي أوصل التوقُ الفرديّ الكتابةَ النسويّة إليه.
3- المكتسبات التاريخيّة والتعبير الروائيّ:
قد تُقرأ عبارة (فيرجينيا وولف) الآتية: «لا حاجة بنا إلى دفن سخطنا، وتحويله ضدّ أنفسنا» بأنّها دعوة النساء للغضب، وعدم كبته، لكنّ التأمّل في الجملة الثانية من هذه المقولة، يفضي إلى التصريح بألاّ تُدين الكتابة النسويّة ذاتها، أن تكتب النساء برؤية نسويّة، لا برؤية الآخر، فالكتابة برؤية الآخر هي دفن السخط، وإدانة الذات.
لكنّ الغضب ما يزال حاجة في بعض الكتابة النسويّة، وما تزال الكتابة الغاضبة خروجاً على النسق، في بعض الأنساق الثقافيّة الضيّقة داخل الثقافة العربيّة. إنّ قضيّة الوعي بما يخرج على سلطة النسق وما ينضوي تحتها تحدّدها التجربة التاريخيّة، كما يحدّدها السياق الثقافيّ- الاجتماعيّ للنسق في علاقته بالأفراد أو العناصر، إذ لم تدخل تجارب الكتابة النسويّة كلّها مرحلة الخصوصيّة الثقافيّة، متخلّية عن ثيمة الغضب، التي تدفع المؤسسة الثقافيّة المرأة في كتابتها إليها دفعاً كي تدينها، فما تزال بعض التجارب بحاجة للغضب ولتحدي النسق بحدة، ممّا قد ينتج نصّاً عنيفاً، في حين نجد أن كتابة النساء اللواتي أتين من أنساق أكثر ضلوعاً بتجربة تحرر المرأة تجاوزن ثيمة الغضب في كتابتهنّ.
ما تزال ثيمة الغضب هي الرئيسة في كتابة المرأة السعودية مثلاً، التي تختلف في درجة تحصيلها لحقوقها ولمتطلّباتها عن المرأة السورية أو اللبنانية أو حتى الكويتية، إنها ما تزال في الدقيقة الأولى من المعركة، وهذا ما عبّرت عنه سمر المقرن في روايتها (نساء المنكر)، أمّا المرأة الكويتيّة مثلاً فهي في خضمّ المعركة، إذ خرجت من المنزل إلى المعترك السياسيّ، وفي سورية، ربحت المرأة بشكل أو بآخر، بعض المعارك وما تزال الحرب مستمرة، لكنها اليوم في معركة دبلوماسية، لا تناسبها الكتابة الغاضبة، إنّها أكثر حاجة إلى أن تعتني بالمقاربات الهادئة والفنية لقضاياها.
تمتلك النساء اللواتي قدمن من أنساق ثقافيّة ما تزال مبتدئة في قضيّة تحرّر المرأة وتمكينها، فرصة أكبر لتحقيق أصالة في تلك التجربة، والوصول إلى إنجاز حقيقيّ، ذلك لوجود فرصة لمواجهة حقيقيّة بين المرأة والنسق، في حين أنّ معظم التجارب العربيّة التي قطعت شوطاً في قضيّة التحرّر، كانت نتيجة مكتسبات جاءت مع حركة التحرر الوطنيّة، لاسيما في الأنظمة الاشتراكية، أو التي نهلت من التجارب الغربية، في الدول التي خضعت لتجربة الاستعمار المباشر بخاصّة، حيث تمّ إرساء الفكر التحرريّ، في مثل سورية ومصر والجزائر والعراق، وعلى الرغم من أنّ المرأة قدمت ذاتها شهيدة، وأماً لشهداء، فشهدت الرملة والثكل، ودخلت معتقلات سياسيّة، إلاّ أنّ ذلك كلّه لم يكن من أجل قضيّة المرأة بحدّ ذاتها، فمكتسبات المرأة في الاتحادات النسائية، ومجالس الشعب، والتعليم، لم تكن نتيجة معارك في سبيل ذلك، بل كانت جزءاً من نتائج التحويل الاشتراكي، والتطوير، والتحرر الذي شمل المجتمع نتيجة شيوع الأنظمة الدستورية.
تكمن مشكلة المرأة عموماً في تطوّر وعيها بذاتها وبالعالم، الذي تعزّز عبر مكتسبات حركات التحرّر، والمترافق مع عدم جاهزيّة المؤسسة عموماً. لقد وعت المرأة حقوقها نتيجة لخطاب المؤسسة، الذي ركّز على تعليم المرأة، وتمكينها، ومساواتها مع الرجل في الحقوق والواجبات، وحقّها في القيادة السياسيّة، وغيرها، لكنها حينما جاءت إلى التطبيق اصطدمت بالقوانين القاصرة عن تلك الشعارات، ولعلّ لذلك تجلّياته في المؤسسة القانونية خصوصاً، في مسألة الإرث، والزواج والطلاق، و قانون الجنسية والحضانة...
ليست الموضوعات والمقاربات واحدة في كتابة النساء، إنّ ما يحدّدها هو وضع البنية الثقافية-الاجتماعيّة وعلاقة المرأة بها، فالمكتسبات التي حصلت عليها المرأة في المغرب العربيّ مختلفة عن التي حصلت عليها المرأة في الخليج العربيّ، أو في بلاد الشام مثلاً، لذلك فما يتمّ طرحه من قضايا تخصّها هنا، غير الذي يتمّ طرحه هناك، وما تحتاجه الكتابة من مقاربة هادئة في بنية ما، يحتاج إلى الكتابة الغاضبة في بنية أخرى.
4- العقوق الجماليّ في الكتابة النسويّة:
تعدّ كتابة المرأة عن الجسد، جسدها وجسد الرجل، خروجاً على التجربة النسائية العربية في الكتابة تاريخياً، لكنّه ليس ثيمة للخصوصيّة الثقافيّة النسويّة في الكتابة، والتي خرجت من فخّ الجسد. يمكن وسم هذه الكتابة بالعقوق الجماليّ، أي الخروج على تقاليد الكتابة النسويّة العربيّة، لأنّ مقاربة الجسد كانت تأتي في النصوص عبر مشاهد متضمّنة في سيرورة السرد، كما لم يكن الجسد يوماً قضيّة النصّ، بل كان يأتي ضمن قضايا أخرى، بل غالباً ما كان يأتي لاستكمال متطلّبات إدهاش المتلقّي، أو التحدّي السافر لسلطة النسق باقتحام (التابو).
لم تكن قضية الجسد وحاجاته الغريزيّة التي ستتحوّل إلى ترف حضاريّ، هي قضيّة نصّ المرأة الرئيسة أو الوحيدة، كما تطرحها التجارب الراهنة، مثل تجربة سلوى النعيمي في (برهان العسل) وحزامى حبايب في (أصل الهوى).
لعلّ كتابة المرأة عن جسدها رد فعل على كتابة الرجل عن جسدها، وليست فعلاًَ بحدّ ذاته، وهي إن كان مقبولة من كاتبة عاشت خارج البنية الاجتماعيّة العربيّة غالباً، واستطاعت الوصول إلى ترف التفكير بالجسد، فهي أقل مشروعيّة من أخرى ما تزال علاقتها المعلنة بعالم الجسد في حدودها الدنيا، وما زالت علاقتها بالآخر من وراء حجاب، وما يزال نصها متوقفاً عند الكتابة الغاضبة، ليس لأن المؤسسة لا تتقبّل هذه الكتابة، فالإبداع عموماً خارج على رغبة المؤسسة، بل لأنها غير مقبولة فنياً لعدم مصداقيّتها، إذ لن يتقبّل المتلقّي جسداً يتمتّع بحريّة التجوّل، واللعب الترِف المعلن في السعوديّة مثلاً، بالطريقة ذاتها التي لن يتقبّل معها من كاتبة سورية أن تصرخ بمطالبتها بحق التعليم، أو بحقوقها السياسية، لأنّها نالتها، كما لن يتقبّل من لبنانية معركة من أجل حرية لباسها، أو جسدها، لأنّ المؤسسة الثقافيّة قد تجاوزت هذه القضية، سيبدو ذلك ادعاء، وسيفقد النصّ مصداقيته الفنية.