تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


أوتار... مصلحتك.. ولو على حساب الفقراء والمتعبين

آراء
الأربعاء 29-7-2009م
ياسين رفاعية

قال الحكماء في الحب الحقيقي: (ظننت أنك أني) وقال الزاهد السري السقطي: (لا تكتمل المحبة بين اثنين حتى يقول كل للآخر: يا أنا) ومثل هذا القول قاله مصطفى صادق الرافعي: (لا يصح الحب بين اثنين إلا إذا قال أحدهما للآخر: يا أنا) وقال شاعر في هذا المعنى:

روحي روحها وروحها روحي‏

ولها قلب وقلبي قلبها‏

فلنا روح وقلب واحد‏

حسبها حسبي وحسبي حسبها‏

وشاعر آخر له نفس المعنى:‏

أنا من أهوى ومن أهوى أنا‏

فإذا أبصرتني أبصرتنا‏

نحن روحان معاً في جسد‏

ألبس الله علينا البدنا‏

اهتمت العرب بهذه العاطفة النبيلة حتى اشتهروا بها على مر التاريخ، وكتب التراث ملأى بقصص لا حصر لها في الحب والتواصل بين شخصين، غالباً: رجل وامرأة... وبين يدي العديد من الكتب المتنوعة مثل (الروض العاطر) الأبرز بينهما و (مصارع العشاق) وغيرهما ويستخلص كتاب الحكمة عند العرب لمحمد الشيخ الكثير الكثير من القصص والشعر، وخصوصاً شعر المناجاة، بين الأحبة، مثل قول الشاعر:‏

يا منية التمني‏

أفنيتني بك عني‏

أدنيتك منك حتى‏

ظننت أنك أني‏

ومن قصص هذاالكتاب أنه: (يحكى أن رجلاً ألقى محبوبه نفسه في الماء فألقى المحب نفسه وراءه، فقال له: ما الذي أوقعك بالماء؟ فقال: غبت بك عني فظننت أنك أني) من كتاب (مدارج السالكين لابن قيم الجوزية - ويعلق محمد الشيخ: هذه رواية أما الرواية الأخرى فقد أورد صاحب كتاب (اللمع) الحكاية بما يشبهها مع شيء من المعاينة في اللفظ، ذكر الشبلي أن متحابين ركبا بعض البحار فسقط أحدهما في البحر وغرق، فألقى الآخر نفسه إلى البحر، فغاص الغواصون فأخرجوهما سالمين، فقال الأول لصاحبه، (أما أنا فقد سقطت في البحر، أنت لمَ رميت نفسك؟ قال: أنا غائب بك عن نفسي، توهمت أني أنت.‏

وقد أفاض المتصوف فريد الدين العطار في وجوه هذه الحكاية الرمزية فقال: (ما إن وقع أحد المعشوقين قضاء وقدراً في الماء حتى أسرع محبه وألقى بنفسه في الماء، وعندما اقترب كل منهما من الآخر سأل المحب حبيبه قائلاً: أيها الجاهل، إذا كنت أنا سقطت في هذا الماء الجاري، فلم ألقيت نفسك في لجته؟ فقال: لقد ألقيت نفسي في الماء لأنني لم أعرف نفسي من نفسك، فقد مضى وقت بلا ريب حتى أصبحت أنا أنت وأنت أنا وأصبحنا واحداً، فهل أنت أنا أم أنا أنت، وإلام الثنائية؟ فإما أنني أنت أو أنك أنا، أو أنك أنت أنت، وعندما تكون أنت أنا وأنا أنت على الدوام يكون جسدانا واحداً والسلام، وإذا كانت الثنائية بيننا فالشرك قد أصابك وإذا انمحت عنا الثنائية فالتوحيد قد أدركك (من منطق الطير).‏

ولنر كيف قيل للشاعر مجنون بني عامر: أتحب ليلى؟ قال: لا قيل: لم؟ قال: لأن المحبة ذريعة للوصلة، وقد سقطت الذريعة فليلى أنا وأنا ليلى.‏

وسئل الزاهد العربي الشهير رويم عن (المحبة) فقال: الموافقة في جميع الأحوال. ثم أنشد:‏

لو قلت لي: مت! متُّ سمعاً وطاعة.‏

وقلت لداعي الموت أهلاً ومرحباً.‏

(من نفحات الأنس من حضرات القدس لأبي بركات عبد الرحمن الجامي)‏

هي إذاً مرتبة السوية التي تصير فيها (الأنا) و (الغير) سواء بعد أن كانتا بسواء، كما تذوب (الأنيّة) في (الغيرية) و (الغيرية) في (الأنية) فليست تبقى ثمة (ثنائية).‏

قال الرفاعي: لا تزن الخلق بميزانك‏

وقال أيضاً: (خذ الحكمة أين رأيتها، فإن العاقل يأخذ الحكمة لا يبالي على أي حائط كتبت، وعن أي رجل نقلت ومن أي كافر سمعت)‏

ويقدم لنا كتاب الحكمة هذه الحكاية التراثية العظيمة: مر عبد الله بن معمر على عبد حبشي كان يأكل تمراً وبين يديه كلب: وضع في فمه لقمة ورمى إلى الكلب بلقمة تمر، قال له عبيد الله: أهذا الكلب لك..؟ قال لا. قال: فكيف صرت تطعمه وأنت تأكل؟ قال: إني أستحي أن ينظر إلي وأنا آكل فلا أطعمه، فعتقته، وإلى حكاية أخرى عن الفقيه ابن الفوبع الذي يذكر عنه صاحب (أعيان العصر) أنه كان إذا رأى أحداً يضرب كلباً أو يؤذيه يخاصمه وينهره ويقول له: أما هو شريكك في الحيوانية؟‏

أما المتصوف محمد بن محمد الزغبي نظر إلى جزار يذبح جدياً، ولم يتلطف في ذبحه فأحس منه بالقسوة والجدي يصيح، فتناول الشيخ وكان جسيماً عظيم المنكبين (الجزار)، ونكس رأسه إلى أسفل ورفع رجليه، وأوهمه أنه يريد أن عرقوبه في الكلّاب المعد لتعليق الغنم المذبوحة من عراقيبها، وقال له: هذا مخلوق مثلك فكيف لا ترحمه؟‏

وتواترت حكاية عن أبي إسحاق الشيرازي أنه كان يمشي وبعض أصحابه معه في طريق، فعرض لهما كلب، فقال: أحدهم لذلك الكلب: إخسأ.. وزجره، فنهاه الشيخ وقال: لم طردته عن الطريق، أما علمت أن الطريق بيني وبينه مشترك!‏

كما نسمع ابن دقيق العيد الذي حكي عنه ما يلي: (وكان شديد الرحمة حتى أنه مر على كلبة ولدت وماتت، فحمل جراءها في سجادته لمنزله وما زال يطعمها اللبن حتى استغنت).‏

وقد ذكر صاحب مصنف (المنتظم) سيرة أبي نصر الكردي صاحب ديار بكر، فقال: (بلغة أن الطيور في الشتاء تخرج من الجبال إلى القرى فتصطاد، فتقدم بفتح الأهواء، وان يطرح لها من الحب ما يشبعها، فكانت في ضيافته طوال عمره.‏

وكان الزاهد عبد الله بن محمد الراسي يقول: أعظم حجاب بينك وبين الحق انشغالك بتدبير نفسك، وكان صاحب الطريقة الرفاعية يقول: (كل الأغيار حجب قاطعة) و (لن يصل العبد إلى مرتبة الكمال وفيه بقية من حروف أنا) ومن هذه الحيثية قال الزهاد (الأنا ليل) أي إن من شأن الإنسان في هذه الدنيا، أن تكتنفه الكلمات الحسية الكثيفة فلا تشف له عن النور، ولذلك قال الزهاد أيضاً: (امح أنيتك... كما اسقطوا الياءات الثلاث، فلا يقولون (لي) ولا (عندي) ولا (متاعي).‏

وقال أحمد الرفاعي جدنا الأعظم: أي أخي أنت غير ونفسك غير وغير وغير، كل ما ادركه بصرك واختلج بشكله وكفيته سرك فهو غير.‏

يا سبحان الله... أين هؤلاء من هؤلاء الذين نحن بين ظهرانيهم؟!‏

الأنانية هي سمة العصر ومصلحتك، ولو على حساب الفقراء والمتعبين.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية