وهي كما ذكرنا متنوعة متعددة الفروع. وفي حلقات سالفة عرضنا نكتة الموقف التي تشير إلى الغباء وسوء الإدراك, التي تصور حالة صعبة أو حرجة أو نزقة. وبينا أن نكتة الموقف يمكن أن تكون تصويراً (لموقف) طريف, أوتشير إلى حسن تخلص. وقد تدل على حالة نفسية غير مستحبة. ونتحدث اليوم عن النكتة التي تنم عن ذكاء أو حكمة وحيلة.
النكتة التي تنم عن ذكاء أوحكمة وحيلة
كثيرة هي التعريفات التي وضعت للذكاء ولسنا هنا في مجال استعراضها, ولكننا نشير إلى بعضها نظراً لصلته بموضوعنا, وقد عرف شترنSTERN الذكاء بأنه القدرة العقلية على التكيف مع المواقف الجديدة أو هو القدرة على التصرف (1).
وعرف بنية Binet الذكاء عدة تعريفات منها قوله:(إنه القدرة على الإدراك والابتكار والتوجيه ونقد الذات) (2).
وإنما ينطبق هذا الكلام كله أو بعضه على مواقف تراكمت معها عناصر النكتة واحداً بعد آخر, حتى انتهت.. إلى ترك أثرها الفعال, مع اكتمالها ووصول الموقف إلى ذروته.
الذكاء في طلب الصلة
ويروي صالح جودت(3) عن الشاعر أبي دلامة أنه كان ذكياً في طلب الصلات من الخلفاء تدل على ذلك حكايته مع أحدهم, إذ مثل بين يديه فقال له الخليفة: سلني حاجتك?
قال:كلب أتصيد به. قال : أعطوه.
قال: ودابة أتصيد عليها. قال: أعطوه.
قال: وغلام يصيد بالكلب ويقوده. قال: أعطوه.
قال: وجارية تصلح لنا الصيد وتطعمنا منه. قال: أعطوه.
قال: هؤلاء يا أمير المؤمنين عبيدك, فلا بد لهم من دار يسكنونها. قال: أعطوه داراً تجمعهم.
قال: فإن لم تكن ضيعة فمن أين يعيشون?
قال: قد أعطيتك مئة جريب عامرة, ومئة جريب غامرة- والجريب مقدار يعادل الفدان, والعامرة هي المزروعة والغامرة هي التي لا نبات فيها.
فقال أبو دلامة: قد أقطعتك أنا يا أمير المومنين خمسمئة ألف جريب غامرة.. من منافي بني أسد.
فضحك الخليفة وقال: اجعلوها كلها عامرة.
قسمة عمر بن الخطاب
ويذكر ابنر الجوزي (4) أنه وفدت على عمر بن الخطاب حلل من اليمن- أي: ثياب- فقسمها بين الناس, فرأى فيها حلة رديئة, فقال: كيف أصنع بها!! إن أعطيتها أحداً لم يقبلها إذا رأى هذا العيب فيها, فأخذها فطواها فجعلها تحت مجلسه, فأخرج طرفها, ووضع الحلل الأخرى بين يديه, فجعل يقسم بين الناس, فدخل الزبير بن العوام وهو على تلك الحال, فجعل ينظر إلى تلك الحلة, فقال: ما هذه الحلة? قال عمر: دع هذه عنك. قال: ماهيه..ماهيه.. ماشأنها? قال عمر: دع هذه عنك. قال الزبير: فأعطنيها. قال: إنك لا ترضاها. قال: بل قد رضيتها.
فلما توثق منه اشترط عليه أن يقبلها ولا يردها, رمى بها إليه. فلما أخذها الزبير ونظر إليها إذا هي رديئة, فقال: لا أريدها. فقال عمر: هيهات.. وأبى أن يقبلها منه.
اثنان.. في الجنة
وينقل ابن الجوري (5) عن أبي الحسن المدائني أن عمران بن حطان دخل يوماً على امرأته, وكان قبيحاً قصيراً, وقد تزينت وكانت حسناء, فلم يتمالك أن أدام النظر إليها. فقالت: ما شأنك? قال: لقد أصبحت والله جميلة. فقالت : أبشر فإني وإياك في الجنة. قال: ومن أين علمت? قال: لأنك أعطيت مثلي فشكرت وابتليت بمثلك فصبرت.. والصابر والشاكر في الجنة.
وينقل أيضاً, من أخبار الحجاج (6) عن أبي اسحق الجهيمي أن الحجاج تنكر وخرج فمر على المطلب غلام أبي لهب, فقال له: أي شيء خبر الحجاج? فقال: على الحجاج لعنة الله. قال: متى يخرج? قال: أنا الحجاج. قال له: أتعرفني? قال: لا . قال: أنا المطلب غلام أبي لهب معروف بالصرع, أصرع في كل شهر ثلاث أيام, اليوم أولها.. فتركه الحجاج ومضى.
جحا.. وتيمور لنك
ويروي د. محمد رجب النجار (7) أن جحا الذكي طبخ يوماً إوزة وحملها ليهديها إلى تيمور لنك, وفي الطريق تغلبت عليه شهوته فأكل منها فخذاً. ولما رأى السلطان أنها ناقصة, قال : لجحا: وأين رجلها, فقال جحا: إن جميع إوز المدينة برجل واحدة, وفي هذا تلميح إلى ما كان عليه تيمور من العرج- واستطرد جحا قائلاً: وإذا لم تكن تصدقني فانظر إلى الإوز الموجود على ضفة البحيرة أمامك.
وكان الإوز عندئذ واقفاً في الشمس, رافعاً إحدى ساقيه, مخبئاً رأسه في صدره كما هي عادته, فرأى تيمور لنك ذلك وتظاهر بالقناعة ولكن أصدر أمره خفية, الموسيقا السلطانية أن تقترب من البحيرة وتضرب ضرباً شديداً, وما هي إلا برهة حتى صدحت الآلات الموسيقية,ودقت الطبول, فجفل الإوز من هذه الضوضاء المزعجة وأخذ يركض يميناً وشمالاً خائفاً مذعوراً. فالتفت تيمور لنك إلى جحا وقال له: كيف تكذب علي, أما ترى أن الإوز يمشي على رجلين?!. فقال جحا: ولكنك يا مولاي نسيت أن الرعب يأتي بالعجائب, فلو أخافوك مثلما أخافوه.. لجريت على الأربع.
عندما ينتقد جحا الشعر
.. ومن نكات جحا (8) ما جرى له مع أمير يزعم أنه شاعر, وما كان أكثر الذين نافقوه حتى صدق أنه شاعر الشعراء. وحدث أن أنشد ذات يوم قصيدة, فهلل المنافقون وشرعوا يلتمسون أوجه البيان والإعجاز فيها, بينما ظل جحا صامتاً. فسأله الأمير:ألم تعجبك? أليست بليغة?
فقال جحا: ليست بها رائحة البلاغة, فثارت ثائرة المنافقين حتى غضب الأمير, فأمر بحبس جحا في الاسطبل فمكث محبوساً شهراً.
.. وفي يوم آخر نظم الأمير قصيدة وأنشدها, وكان جحا حاضراً, فقام مسرعاً, فبادره الأمير: إلى أين.. يا هذا?
قال جحا: إلى الاسطبل يا مولاي الأمير.
الهوامش:
1- ضعاف العقول- متري أمين- دار المعارف- القاهرة 1957 ص .29
2- المرجع السابق- ص.30
3- شعراء المجون - صالح جودت- دار الهلال- ص.39
4- أخبار الظراف والمتماجنين- ابن الجوزي ص16-.17
5- المرجع السابق- ص126-.127
6- المرجع نفسه- ص.111
7- جحا العربي- محمد رجب النجار- عالم المعرفة- الكويت 1978 ص.118
8- المصدر السابق ص.125